ردا على عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب… في جدلية استخدام العربية: لغة محكومة بالحياة
أ. مولود بن زادي
أثارت ندوة الطاهر لبيب في موضوع اللغة العربية، ضجّة واسعة في الصحف ومنابر التواصل الاجتماعي، قال فيها عالم الاجتماع التونسي: «يجب أن ننظر إلى موت اللغة العربية على أنّه احتمال حقيقي وارد. فاللغة التي لا يتكلمها أهلها تموت».
إذا تأملنا الحديث أدركنا أن الطاهر لبيب لم يأتِ بجديد. فقد سبقه إلى ذلك أدباء مثل، الجزائري أمين الزاوي الذي قال في شهر كانون الأول/ديسمبر 2015: «إن اللغة العربية محكوم عليها بالموت والانحصار في خطبة الجمعة». وأضاف قبل أيام: «بعد مقالتي في موضوع موت اللغة العربية، ها هو الصديق والمفكر الطاهر لبيب يأتي بالطرح نفسه في مقالتي قبل ثلاثة أشهر». وفي سنة 1992، تنبأ لغوي أمريكي بموت 90 بالمئة من لغات العالم مع حلول سنة 2100. وقام عالم اللغويات الفرنسي كلود هاجيج بدراسات في موضوع «حياة اللغات وموتها». ودعا في كتابه بعنوان: «ضد أحادي الاتجاه» لمقاومة هيمنة اللغة الإنكليزية والفكر الإنكليزي ومحاولة «أمركة» مظاهر الحياة والفكر في العالم، ودعا لحرية العقل والفكر وتنوع اللغات والثقافات. فالموضوع قديم خاض فيه اللغويون طويلا. والعرب لا يتحدثون الفصحى منذ قرون، فلماذا لم تنقرض حتى اليوم؟
وقال لبيب: «إنَّ الإحصائيات العالمية تدل على وجود ستة آلاف لغة في العالم». هذه المعلومات تبدو خاطئة، فجلّ التقارير الموثوقة يذكر نحو 7000 لغة، ومنها تقرير «أس أي أل إنترناشونال» الصادر سنة 2009 الذي أحصى 6909 لغات!
يتناول لبيب موضوع اللغة المعقّد مع أنّه من اختصاص اللغويين، وليس علماء الاجتماع. فرغم تداخل بعض العلوم إلاّ أنّ الفرق بين اللسانيات وعلم الاجتماع – بما في ذلك القسم الذي يعرف باسم علم اجتماع اللغة – شاسع. فاللغويات أو اللسانيات علم يعنى بدراسة اللغات الإنسانية وخصائصها وتراكيبها ودرجات التشابه والتباين في ما بينها. أما علم الاجتماع فيعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية وكشف العلاقة بينها، ومن ذلك تشكل المجتمعات، أساليب حياة الجماعات البشرية، التنظيم الاجتماعي، طبيعة العلاقات الاجتماعية، السلوك الإنساني. وها هو لبيب يعترف بذلك في قوله: «لست فقيه لغة ولذلك لن أقترب من اللسانيات».
ففي تصوري، اللغوي أحق بإصدار أحكام في موضوع اللغة، وعالم الاجتماع في موضوع الظواهر الاجتماعية، وأهل مكة أدرى بشعابها. ويقول «إنّ الجدالات والنقاشات أدخلت اللغة العربية أجواء ميتافيزيقية، في البحث عن الجنة وماذا يتكلم الناس في الجنة، والأساطير، فالعلاقة باللغة أصبحت ميتافيزيقية». لا دخل للميتافيزيقيا باللغة، فاللغة وسيلة تعبير، ولا يحق لنا أن نتهم كل عربي بالتفكير الميتافيزيقي على نحو ما ذكر. فالعربية التي يعبِّر بها أحدنا عن الشعوذة، يعبِّر بها آخر عن المعرفة، وشتان بين الوسيلة والأفكار. والتفكير الميتافيزيقي لا يقتصر على شعب ولا على لغةٍ، وقد أكد ديكارت أهمية الفلسفة والميتافيزيقيا، مشبّها المرء الذي يمتنع عن التفلسف بمخلوق أعمى يسير معصوب العينين، قائلا: «نحن نتفلسف حين نفكر في العالم والآخرين والتاريخ البشري والحقيقة والحضارة، وتبدأ الفلسفة حين يدرك المرء أن لأفعاله دلالة ميتافيزيقية». وشعوب العالم كلها عرفت شيئا من الميتافيزيقيا وليس العرب فحسب. ففي الصين مثلا يقرن رقم 4 بالتشاؤم لأنه يحمل نطق كلمة الموت نفسه، فلا يقدّم الشخص هدية تتكون من 4 أجزاء، ولا توجد في بعض الفنادق والمستشفيات الصينية حجرات تحمل رقم 4. وهذا أبسط مثال عن التفكير الميتافيزيقي الصيني الذي لم يمنع الصين من بلوغ أسمى درجات التطور والرقي في العالم، ولم يؤثّر في لغتها.
ونرى عالم الاجتماع التونسي يشكّك في الإحصائيات الدولية بلا حقّ، فيصفها «بإحصاءات سطحية ومضللة ولا تدل على شيء»، مضيفا: «ومنها أن اللغة العربية لها مرتبة متقدمة عالميا وهي الرابعة، إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد السكان في الوطن العربي (نحو450 مليونا)، والمرتبة الثانية بعدد الدول التي تتكلمها… هل هي الفصحى أم الخليط أم المحكية؟». يبدو أنّ لبيب نسي أنّ لمجتمعات كثيرة لغات فصحى وأخرى محكية. ففي بريطانيا مثلا ثمة لهجات تسمى slang لا نفهمها وبعض كلماتها غير متوفر في القواميس الإنكليزية، وثمة اختلافات بين الإنكليزية في بريطانيا وأمريكا وأستراليا ودول الكومنويلث نطقا وحتى لفظا. فهل نشكك في الإحصائيات نفسها التي منحت الإنكليزية المرتبة الأولى عالميا مع وجود لهجات مختلفة لدى الأمم الناطقة بها؟! وهل نشكك في عدد الناطقين باللغة الاسبانية أو الفرنسية والبرتغالية وفيها لغات رسمية ومحكية؟ فإحصائيات عامة وتنطبق على كل اللغات ولا يمكن التشكيك في أرقام أممية وإثارة الشبهات من غير أدلة.
ويذكر «إشكالية التباعد بين المجالات، فالعربية بقيت في الوجدانيات والأدب والثقافة العامة فيما حضرت اللغات الأخرى في العلوم والتكنولوجيا ومظاهر التطور والعصرنة»، هذا أيضا كلام ردّده الزاوي الذي قال: العربية لا تسمح له بالتعبير عن الجنس ورماها هو وآخرون بالعقم والتخلف، مع أنّ العربية تستوعب يوميا عشرات المصطلحات العلمية والتكنولوجية والطبية وغيرها، وليس ثمة نص علمي وتقني غير قابل للترجمة إلى اللغة العربية. ومن يشكك في قدرة العربية على وصف الجنس أدعوه لتأمل الروايات الرومانسية المترجمة إلى العربية، أو أعمال عربية مثل رواية «التشهي» لعالية ممدوح و»ألف ليلة وليلة» وأشعار أبي نواس… فالعربية لا تنحصر في العبادة والأدب، وإنما تنفتح على كل العلوم والمعارف. لكنّ الغلبة في حقل العلوم والتكنولوجيا حاليا ليست لنا ولسنا نجتهد لمعرفة هذه المصطلحات، وهل مصير لغات كل الأمم غير المتطورة الموت؟ ويذكر «التباعد في استعمال اللغة العربية في بعض الأقطار العربية، فهناك بلدان عربية لا تتكلم العربية ليس الصومال وجيبوتي فحسب…». مع أن لبيب في علم الاجتماع لا يبدو مطلعا على الانتماءات العرقية في الصومال وجيبوتي والواقع اللغوي فيهما. فالقبائل الصومالية تشكل 85 في المئة من السكان، والعرب 3.1 في المئة فحسب، وينطق 95 في المئة من سكانها باللغة الصومالية، ولا أدري لماذا ذكر جمهورية جيبوتي إن كان يدرك أنّ الفرنسية هي اللغة الرسمية فيها وليس العربية، وجل سكان هذا البلد يتكلم اللغة الصومالية. وقال: «ستنقرض اللغة اجتماعيا كلغة مجتمع وتبقى لغة مقدس ودين، كما آلت إليه اللغة اللاتينية»، وهو ما ذهب إليه أيضا الزاوي، وقد نشرتُ مقالةً في «القدس العربي» بتاريخ 27 كانون الثاني/يناير 2016 بعنوان «هل سيكون مصير اللغة العربية الموت مثل اللاتينية؟ ردا عليه، وضحتُ فيها بعض وجهات الاختلاف بين اللاتينية والعربية. فاقتران اللغة العربية بالقرآن الكريم والإسلام أضفى عليها دون غيرها مقاما مقدّسا. فهي لغة القرآن الكريم في قوله تعالى «إنَّا أنزلناه قرآنا عربيا»، واللغة الوحيدة التي يُتلى بها هذا الكتاب في شتى الثقافات، ولغة العبادة الوحيدة التي يلجأ إليها المسلمون من كلّ الأصول العرقية والثقافات البشرية لأداء شعائرهم الدينية، مما يفسر الاهتمام المتزايد بها وبتعلمها، وهو ما يعزّز مقامها وحظوظها في الخلود. وبخلاف ذلك، فإنَّ اللاتينية لم تكن لغة الإنجيل الوحيدة، فقد كُتب أيضا بالآرامية والعبرية. وهو اليوم يقرأ بأكثر من 2000 لغة. لا مجال لمقارنة اللاتينية بالعربية، فالظروف مختلفة. فاللاتينية في الغرب والعربية في الشرق. واللاتينية تطورت تطورا طبيعيا عجيبا حتى أنّ الشعوب الأوروبية لم تكن تدرك أنها لم تعد تتحدث اللاتينية! ولم يقاوم ذلك أحد. ونشأت محلّها لغات موحدة ومنظمة وثرية ومختلفة فصار الأوروبي اليوم عاجزا عن فهم نصوص لاتينية تعود إلى القرن 15 الميلادي! أما العربي فقد رفض عبر العصور المساس بلغته واستبدالها بلهجاته الفوضوية الكثيرة والمحدودة من حيث الألفاظ، ولا تخضع لقواعد ولا تصلح للكتابة. فحافظت العربية على مقوماتها من حروف وأصوات وقواعد النحو والصرف، فالعربي يفهم اليوم أشعارا عربية تعود إلى القرن السادس الميلادي، أما إساءة نطق حروف عربية في بعض الأقطار، كما ذكر لبيب، فهو ضعف في العباد وليس اللغة ولا يؤثّر في شيء. فإن كانت الفرنسية توحّد فرنسا بأسرها، فأي لغة تعوِّض الفصحى في بلد مثل الجزائر، ولكل منطقة لهجة مختلفة، بعضها مشوّه بألفاظ فرنسية؟
وخلاصة القول إنّ الطاهر لبيب لم يأت بجديد فقد سبقه إلى هذا الطرح غيره، وهذا مجرد تخمين بلا أدلة. وهو يقرّ أنّه ليس فقيها لغويا ليحكم في موضوع اللغة. ويتوقع انقراض العربية في وقت تتوقع فيه تقارير الأمم المتحدة أن يقفزعدد الناطقين باللغة العربية كلغة أولى إلى نحو 647 مليون نسمة عام 2050، أي نحو 6.94 من عدد سكان العالم.
سيبقى تطور اللاتينية إلى لغات رومانسية لغزا محيّرا وحالة خاصة ونادرة في تاريخ البشرية غير قابلة للتعميم أو التطبيق على لغات أخرى في العالم. فلكل لغة عبقرية وخصائص وأركان بعضها هش وبعضها متين، وأركان العربية الأمتن. لكم تمنيت أن أكون حاضرا سنة 2100 لأذكِّرَ العرب بما قلتُه في مقالاتي وثقتي بأن العربية سوف تحيا إلى ما بعد عام 2100، وإن كنتُ ترابا في ذلك الزمن فإنّ روحي ستكون حاضرة في الأجواء تهمس مردّدة: «هنيئا لكم ببقاء لغتكم رغم أوهام أساتذة وعلماء من بني جلدتكم».
القدس العربي