شجون لغوية على ضفاف الأطلسي

أ. عبد الصمد بن شريف

 حول مائدة الغذاء وفي خيمة شاسعة  اتسعت لمختلف المدعوين  العرب من المحيط إلى الخليج الذين حضروا حفل افتتاح المؤتمر السنوي 13 لمؤسّسة الفكر العربي  الذي انعقد في شهر   ديسمبر2014 بمدينة الصخيرات تحت عنوان "التكامل العربيّ: حلم الوحدة وواقع التقسيم ، وجد  عدد من المثقفين والإعلاميين والخبراء  أنفسهم في خضم نقاش متشعب وحماسي وساخن حول المسألة اللغوية في المنطقة العربية وأسباب تراجع واختناق وحصار اللغة العربية ،وبحكم انتماء الملتئمين حول مائدة الأكل إلى جنسيات عربية  مختلفة ،فقد كان النقاش مناسبة لبسط عدد من مظاهر اختلال السياسات اللغوية في أكثر من بلد،واللافت أن كل  الكلام الذي قيل كشف  عن قلق وتخوف جماعي عميق   تجاه مآل اللغة العربية.

فالمغربي عندما  توقف عند خطورة اجتثاث اللغة العربية بوسائل مختلفة ، وعند وجود  مخططات لفرنسة وتدريج الفضاء  المحلي ،كان يعتقد أن  وضع اللغة العربية في بلاده  أسوأ من غيره .لكن سرعان ما صدمه عدد من المثقفين والإعلاميين القادمين من المشرق  بالمستوى المخيف الذي وصل إليه تداول  العربية في دول الخليج  على وجه الخصوص والتي رجحت كفة اللغة الانجليزية وانتصرت لها لتصبح لغة التواصل اليومي ،ما يفيد أن هناك عدالة ومساواة بين الدول العربية في تقزيم وطمس اللغة العربية  ،والتعامل معها على خلفية أنها قاصرة علميا وغير مؤهلة لمواكبة التحولات التكنولوجية المتسارعة .

لكن أهم خلاصة خرج بها  هذا النقاش ،هو أن مشكلة اللغة  العربية ناجمة  في المحل الأول عن غياب قرار سياسي  واضح  لمأسستها   وترسيمها وحمايتها ،وجعلها اللغة الوطنية الأولى فعلا وقولا ،أي اعتبار هذه اللغة   شكلا من أشكال السيادة وأحد مكونات الهوية المشتركة، ورافعة من روافع التنمية والتربية والتعليم  والبحث والمعرفة والتثقيف والتواصل .

إن حالة الانفصام  اللغوي التي يشكو منها المجتمع العربي ،تترجم وضعا  ذهنيا ونفسيا  ينطوي على قدر كبير من الهشاشة وعدم الثقة في النفس ،ورغم أن  عددا من الدساتير تؤكد على كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية والأساسية  إلى جانب لغات وطنية أخرى كاالامازيغية في المغرب، التي نصت  عليها أحكام  الفصل الخامس  من الدستور الذي استفتي عليه عام 2011،فإن الواقع اللغوي   في المؤسسات  العمومية  والخاصة والشارع  والإعلام  يعكس  مشهدا شاذا بكل المقاييس.فكيف يمكن  تبرير الاستعمال المفرط  للغة الفرنسية في المنطقة المغاربية ،والإنجليزية في المشرق العربي.ويحدث هذا على حساب العربية والمكونات اللغوية الوطنية الأخرى ،دون مراعاة أحكام الدستور، وفي خرق سافر لأسمى قانون   يتعين على الدول كما الأفراد التقيد به.

إن حالة الانفصام  اللغوي التي يشكو منها المجتمع العربي ،تترجم وضعا  ذهنيا ونفسيا  ينطوي على قدر كبير من الهشاشة وعدم الثقة في النفس ،ورغم أن  عددا من الدساتير تؤكد على كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية والأساسية  إلى جانب لغات وطنية أخرى كاالامازيغية في المغرب
هذه الشجون والأسئلة الموجعة التي تقاسمتها مع ثلة من المثقفين والإعلاميين العرب ،جعلتني  أعترف وبكل مرارة أنني لم أعد أفهم سر هذا التوجه نحو التسطيح والتعويم الذي باتت تمارسه مجموعة من وسائل الإعلام  في المغرب .هل الأمر يتعلق بإستراتجية مفكر فيها لصياغة مواطنين معطوبين ومشوهين لغويا وفكريا وقيميا ؟ أم أن المسالة لا تعدو أن تكون اختيارا اعتباطيا ،أو ربما أملته مقتضيات التنافس بين المؤسسات الإعلامية طلبا للربح وسعيا إلى استقطاب أكبر عدد من المستمعين والقراء والمشاهدين؟الأساسي في تفكيك هذه الممارسة، هو أن قضايا حساسة تطرح للنقاش ويتولى إدارتها والحسم فيها إما شباب في بداية المشوار ،أو أشخاص تحولوا بقدرة قادر إلى خبراء وفقهاء في كل شيء .ويا للعجب ويا للغرابة كيف يمكن أن يقبل العقل والمنطق هواة يقولون أي شيء وبأي طريقة دون تقدير أو مراعاة لما يمكن أن يترتب عن ذلك من انعكاسات سلبية .

احترت في فهم مايجري من تدمير وتشويه وتسطيح لغوي وفكري  ،وحاولت أن اقنع نفسي بأن الأمور ربما عابرة وعرضية ،لكنها صمدت واستماتت في ترسيخ هذا الفتح الإعلامي غير المسبوق.وما يعمق الغرابة والاندهاش  هو أن مؤسسات إعلامية تستضيف شبابا مبتدئين ليناقشوا قضايا مصيرية وحساسة  بلغة هجينة ،علما أنهم وبحكم محدودية تجربتهم وثقافتهم وبحكم سنهم لن يعطوا أكثر مما عندهم .

ليس هذا الموقف طعنا في كفاءتهم ،بل احتراما لهم و لباقي المواطنين.لسبب بسيط هو أن عطاءهم وتألقهم يمكن أن يكون أفضل في سياقات أخرى وفي قضايا يستطيعون مناقشتها والتميز في التعاطي معها .لأنه هناك فرق بين الحق في التعبير عن وجهة نظر أو موقف أو تشجيع طاقات في بداية تفجرها وبين التحليل والتنوير والتعليل و صناعة الرأي العام .

بكل تأكيد  هذا الكلام يغضب جزءا  كبيرا  من  الذين أوجه الكلام إليهم .لكن الواجب الأخلاقي والفكري أرغمني على هذا التمرين  من موقع الدفاع عن الجودة والمصداقية والجدية وسلامة اللغة ووضوح الرؤيا والرؤية.

وليس في ما أقول أي تحامل أو انتصار لتفكير مجانب للصواب .

يكفي أن نتابع المجازر اللغوية التي ترتكب بالتعابير المفخخة ،وأن نلاحظ  كيف لايجد منشطون ومنشطات  أي حرج في استعمال خليط لغوي لاهو بالعامية ولا هو بالفصحى ولا هو بالفرنسية . والمثير عند هؤلاء هو كثرة الصراخ والتهريج والشعبوية والطرق والأساليب   الغريبة والدخيلة المعتمدة في صياغة الأخبار ومناقشة الملفات ،وكيف يتحول خبر تافه إلى خبر أساسي ،وكأن الرسالة المراد إيصالها من خلال هذه التقليعة الإعلامية ،هو أن أي شخص بمقدوره أن يصبح صحافيا أو منشطا ،يكفيه أن يكون مرحا وسطحيا وملما بقواعد تدمير اللغة وتشويه الذوق العام  واحتقار الفكر.

الجدير بالملاحظة في هذا الإطار ،هو أن البرامج والأخبار بالفرنسية تحترم   لغة موليير  ولا تقدر على خدشها وتلتزم بالمعايير المهنية وتقدم بطريقة جذابة وبأصوات مريحة للأذن. وليس هناك من الصحفيين أو المنشطين، من يتحول إلى متخصص في الإفتاء أو خبير يفهم في كل شيء.

 

لكم