الاهتمام باللغة العربية يبشر بنهضة جديدة للمسرح

محمد ولد محمد سالم

تشهد الساحة المسرحية الإماراتية تشجيعاً على استخدام اللغة العربية في في المهرجانات المسرحية التي أصبح اثنان منها يشترطان اللغة العربية في العروض، هما مهرجان دبي لمسرح الشباب ومهرجان الشارقة للمسرحيات القصيرة في كلباء، ويأتي هذا التوجه بالتوازي مع توجه استراتيجي للدولة يسعى إلى إعادة الاعتبار للغة العربية وتعزيز حضورها على جميع الصعد، باعتبارها لغة الهوية والحضارة للمجتمع .

ينبع الاهتمام باللغة العربية على خشبة المسرح إلى جانب تزامنه مع التوجهات الوطنية، من إحساس عام في الساحة المسرحية الإماراتية يتلمسه كل مهتم بها بضعف المحتوى الدارمي للنصوص التي تكتب ابتداء بالعامية، مما ينعكس بالسلب على العروض المسرحية التي شهدت تردياً أدخل المسرح إلى نفق مظلم، فمع انتشار استخدام العامية في العروض في العقدين الأخيرين رأى البعض أنهم قادرون على الكتابة بها، وتجرأ الكثيرون على اقتحام المسرح ظناً منهم أن مجرد معرفة لغة الحوار التي سيكتب بها النص كافٍ لأن يخرج المرء نصاً مسرحياً جيداً، فشرعوا يكتبون وانهال على الساحة سيل من النصوص العامية المهلهلة في بنائها الدرامي، الفاقدة لكثير من العناصر التي ينبغي توفرها في النص المسرحي، وانعكس ذلك جلياً عندما مثلت تلك النصوص على الخشبة، مما أوجد نوعاً من التذمر في أوساط المسرحيين الذين أحسوا بخطر الاستسهال، وأدركوا أنه إذا لم يواجه هذا الاستسهال بإجراءات تنظيمية صارمة من لدن الهيئات الثقافية المنظمة للمهرجانات والداعمة للمسرح، فإنه سيقضى على المسرح الإماراتي، وهكذا درجت لجان التحكيم في المهرجانات في توصياتها على التشديد على ضرورة اعتماد نصوص فصيحة في العروض، والاعتناء باللغة .

ليست ظاهرة العناية بالفصحى واعتمادها في العروض المسرحية خاصة بالإمارات، فقد ظهرت هذه العناية في السنوات الأخيرة في دول عربية عدة بعد ما يزيد على عقدين من سيادة العاميات العربية في مجال المسرح، ففي الجزائر مثلاً شهدت الساحة المسرحية في السنوات الأخيرة موجة من العروض بالفصحى قادها شباب جامعيون تأسسوا مسرحياً وتأطروا لغوياً بوجود مدققين لغويين يقومون على مراقبة النص الحواري في كل مراحله، وقدم هؤلاء الشباب مسرحاً فصيحاً جذب انتباه الجمهور وتفاعله العميق، ومن أهم المسرحيات التي قدمت في هذا الصدد وتركت أثراً بالغاً لدى الجمهور صرخة أوفيليا المأخوذة عن هاملت بلا هاملت للعراقي خزعل الماجدي، وقدمتها فرقة النوارس، وانسوا هيروسترات للكاتب الروسي غريغوري غورين وهي من إنتاج المسرح الوطني الجزائري، والحكواتي الأخير للكاتب المغربي عبد الكريم برشيد وإخراج التونسي المنجي بن إبراهيم وتمثيل الفنان الجزائري عبد الحليم زريبيع، ولغة الأمهات عن نص ألكسيس دارنيس واقتباس الفنان العراقي الراحل قاسم محمد .

لقد حاول المسرح الجزائري الانخراط في الحداثة والتجريب، من خلال ارتباطه بالأسئلة الفكرية للمسرح العربي والعالمي، للبحث عن أفق للخروج من حالة التراجع والهبوط التي أدى إليها الاستخدام المفرط للعامية، والتي حولت المسرح إلى مجرد وسيلة للتهريج والإضحاك، وكذلك للخروج من الساحة الوطنية الضيقة إلى الساحة العربية الأوسع، وإسماع صوت المبدع الجزائري للمتفرج العربي في كل مكان، وهذه الأسباب تنطبق على كل الدول العربية التي بدأ هذا الاتجاه إلى الفصحى ينشط فيها أخيراً .

ليست الفصحى في المسرح العربي ظاهرة دخيلة، ولا هي بدعة يبتدعها المسرحيون اليوم، بل هي الأصل الذي بني عليه هذا الفن عندما ظهر أول مرة مع مارون النقاش في لبنان وأبو خليل القباني في سوريا ويعقوب صنّوع في مصر، وكان هؤلاء يؤلفون المسرحية أو يترجمونها بالفصحى ثم يمثلونها على الخشبة، ثم جاء بعدهم كتاب المسرح العربي الكبار الذين كان لنصوصهم المكتوبة بالفصحى الأثر الحاسم في تأسيس المسرح العربي، وتأصيل وجوده على خريطة الإبداع العربي، فقد وضعت النصوص التي ألفها توفيق الحكيم ويوسف إدريس وألفرد فرج وسعد الله ونوس والطيب الصديقي وعز الدين المدني وغيرهم كثيرون، بين يدي المخرجين والممثلين مادة درامية متكاملة جاهزة للتمثيل، تفتح بجمال لغتها وبراعة حواراتها ودلالتها الدرامية العميقة شهية المخرج والممثل للإبداع وتشد المتفرج لمتابعتها .

ولم يقتصر أمر الفصحى في المسرح على النثر وحده بل إن الفصاحة قادت هذا الفن إلى منطقة فن العرب الأثير (الشعر)، حيث ظهر ما عرف بالمسرح الشعري الذي قاده بجدارةِ أمير الشعراء أحمد شوقي من خلال مسرحياته: (قمبيز) و(مجنون ليلى) و(مصرع كليوباتره) و(عنترة) وغيرها، وقد اختط بها طريقاً ممهداً للإبداع في هذا النوع من المسرح سلكه من بعده ثلة من الشعراء المتميزين مثل صلاح عبد الصبور وعزيز أباظة وأحمد باكثير وغيرهم، واعتبر ذلك إنجازاً كبيراً للغة العربية والشعراء العرب الذين طوعوا الشعر للغة المسرح، وقدموا نصوصاً قابلة للتمثيل جاذبة للجمهور، وكان من شبه الخيال أن تقدم حوارية بطول مجنون ليلى أو مصرع كليوباتره في قالب شعري يلتزم بوزن محدد، ولم يكن في وسع أحد أن يفعلها غير أحمد شوقي .

هكذا يمكن القول من دون تحفظ إن المسرح العربي تأسس وتأصل فصيحاً، ولم يعرف العامية إلا بعد ذلك، ولم يكن طغيانها إلا سمة من سمات الضعف حين تراجعت ثقافة المسرحيين، وضعف زادهم المعرفي وقل نهوضهم للإبداع، فبحثوا عن الأسهل والأقرب، لكنهم كانوا بذلك يلقون بأنفسهم في هوة سحيقة ابتلعتهم، وكادت تبتلع معهم المسرح إلى الأبد، كما يمكن القول إنه لا قيامة لمسرح عربي أصيل ولا ازدهار له من دون أن يمر بالفصحى، لأن المسرح ما دام خطاب وعي وثقافة وفكر فلا بد أن يمر بلغة الوعي والثقافة والفكر لدى العربي وهي العربية الفصحى من دون منازع، ولعل علامات التوجه إلى الفصحى التي نشاهدها هنا وهناك في الوطن العربي بداية لنهضة مسرحية جديدة وعودة لجذوة الإبداع في هذا الفن بعد خفوت عقود .

الخليج