الاميرة بديعة الحسني الجزائري
كانت عادتي منذ فجر شبابي الكتابة في المناسبات، إما ردّ على خطأ يمس حقوق المرأة في شريعتنا الإسلامية أو تصحيح لخطأ تاريخي وقع فيه البعض من المؤرخين، في سيرة الأمير عبد القادر الجزائري وخروجه من الجزائر، والأحداث التي مرّت به.
كنت أراسل مجلة روز اليوسف في الخمسينيات وكذلك مجلة الشرق الأوسط التي تصدر في لندن تحت اسم بادية ، وفي أواخر الثمانينيات أخبرتني حفيدتي ، وكانت في السنة الثالثة في الجامعة قسم اللغة الفرنسية، قال لهم أستاذ اللغة أثناء محاضرته «إن اللغة العربية قاصرة على نقل العلوم الحديثة، بل أنها من اللغات الميتة»، فوجدت من واجبي الرد عليه في بحث علمي نشرته لي صحيفة الثورة السورية عام 1995 ، ذكرت فيه كل ما اختزنته ذاكرتي منذ كنت في السنة الخامسة ابتدائي حول لغتنا العربية الجميلة، وما زلت أذكر قول الشاعر الكبير حافظ إبراهيم في وصفه لهذه اللغة:
هي البحر في أعماقه الدرّ كامنٌ
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فسيدنا آدم عليه السلام كان الإنسان الأول الذي تكلّم العربية التي علّمه إياها الخالق الواحد الأحد، خلق آدم من طين وخلق له زوجة من ضلعه بعملية استنساخ كما يطلقون على هذه العملية في هذا العصر، وذكر تعالى لعباده في سورة البقرة الآية 31 {وعلّم آدم الأسماء كلها } أي علّمه جميع المرئيات من حيوان ونبات ، وأكرمه بالنطق ، وخاطبه الخالق بالقول {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة..}، فبأي لغة كلّمه الله سبحانه وتعالى بها؟ أليس باللغة العربية؟ والدليل أنه تعالى الخالق سمّاه آدم، من الأدمة، وأحد معانيها في لغتنا العربية الجميلة الجلد غير المكسو بالشعر، لأن جلود جميع الحيوانات والطيور مكسوة بالشعر.
وقال تعالى في سورة يوسف آية 2: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون}.
ودليل آخر وهو كتاب النبي سليمان عليه السلام إلى ملكة سبأ «بلقيس» التي بدأها بقوله {إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} ، وهو عليه السلام أول من بدأ كلامه بهذه الجملة كما يذكر العلماء ، فآدم عليه السلام علّمه الخالق جلّ جلاله هذه اللغة قبل هبوطه إلى الأرض في مكانٍ يسمى مكة في شبه الجزيرة العربية، وأنزل الحجر الأسود المبارك الذي طاف حوله سيدنا آدم وهو يستغفر ربه إلى أن غفر له تعالى في مكان الكعبة في مكة المكرمة، مركز الأرض كما يذكر علماء الجيولوجيا.
ويذكر العلماء أيضاً، ومنهم الدكتور عفيف بهنسي في كتابه «الشام»( ) وعدد من المؤرخين كأحمد ابن أبي يعقوب بن جعفر في كتابه «تاريخ اليعقوبي»، والبلازري، وابن جبير، وغيرهم، أن سيدنا آدم أقام في ضواحي دمشق في فترةٍ ما بمكان يسمى «بيت أبيات»، وأن حرمه أمنا حواء كانت تعيش في مكان قريب منه يسمى «بيت لاهيا» وهي قرية ما تزال قائمة حتى الآن.
ويؤكد العلماء والمؤرخون كأحمد سوسة في كتابه العرب واليهود في التاريخ وغيرهم، أن من هاجر من الكنعانيين إلى السواحل ، وسمّوا الفينيقيين، هم أول من نشر الأبجدية العربية وشتى العلوم التي انتقلت إلى العالم الغربي، واشتهر منهم علماء أمثال زينون الرواقي قبل الميلاد بآلاف السنين، وهو فينيقي أي عربي، وكان عالماً أنشأ معاهد في أثينا عام 336 قبل الميلاد، فهدته الجمعية الأثينية مفاتيح أسوار أثينا وتاجاً من الذهب، وكُتب على قبره «لا يضيرك كونك فينيقياً أي عربي»، ومنهم مارينوس الصوري الذي وضع خريطة للعالم قبل الميلاد بمئة وعشرين عاماً، وترك كتاباً في الجغرافية وهو عربي فينيقي، وفي عام 1949 عثرت بعثة أثرية إيطالية بإشراف الباحث «كلود شيفر» في رأس شمرا بشمال سورية على أبجدية كنعانية فينيقية يرجع تاريخها إلى الألف الخامس قبل الميلاد كُتبت على لوح من الفخار تتألف من اثنين وثلاثين حرفاً، كما وُجد في مدينة فينيقية تقع على مسافة 25 ميلاً من مدينة بيروت كتابات باللهجة الكنعانية نُقشت على تابوت حجري للملك «أحيرام» كُتبت من اليمين إلى اليسار بالخط المُسند يرجع تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد.
هذه المكتشفات الأثرية تُثبت لنا أن الذي نشر الحضارة والرقي في العالم هم سكان الجزيرة العربية أحفاد آدم عليه السلام، ومنهم انتقلت إلى الإغريق والرومان، وليس أرسطو ولا أفلاطون ، وليس بروكلس أو إقليدس وغيرهم من فلاسفة اليونان الذين أخذوا ثقافاتهم وعلومهم ممن سبقهم من علماء الآراميين والكنعانيين والكلدان والعموريين والفينيقيين العرب.
وفي الألف الثانية قبل الميلاد كما يذكر المؤرخون هاجر البابليون الذين هم من سلالة العموريين وكان من أشهر ملوكهم حمورابي صاحب الشريعة الشهيرة المسماة باسمه التي تعتبر من أقدم النظريات الوضعية في تاريخ العالم، وكان حمورابي يدين بالتوحيد أي بإله واحد غير مرئي، وكان مفكراً وحكيماً، وقد دُونت شريعته على مسلة من الحجر الديواريت الأسود، وهي مكونة من ثلاثة آلاف كلمة باللغة العربية البابلية وبالخط المسماري الأكادي.
هذه الأبجدية التي كان أول من ابتكرها الكنعانيون وأخذ منها الإغريق أبجديتهم وسميّت بالـ (Al-phabet) أي باسمها العربي (الألف باء)، إذ استحال عليهم تبديل هذا الاسم ثم نقلت من اليونانية إلى اللاتينية ولكنهم غيّروا اتجاه الكتابة من اليمين إلى اليسار. وإلى الآن يوجد كلمات كثيرة في اللغات الأجنبية ترجع إلى اللغة الأم العربية.
لقد توفر في عصرنا الحاضر والحمد لله علماء آثار وبحاثة من المؤرخين جمعوا ثروة هائلة من المعلومات التاريخية أيّدتها الآيات القرآنية التي نزلت على سيدنا محمد نجت من أيدي العابثين والمغرضين بقدرة الله تعالى، وفشل أعداء الحقيقة أعداء لغتنا العربية، وأصبحوا كناطحِ صخرةٍ يوماً ليوهنها، فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ.
والآن وجدتُ نفسي دخلتُ حقولاً يعتبرها البعض من الناس أموراً دينية إسلامية فينفرون منها وينزعجون منها، وربما اعتبروها من الأساطير الخيالية، وكم كان كل من حولي يضحك مني حينما كنت أقول لهم أن سيدنا آدم عربي ! وكم كانت سعادتي كبيرة حينما قرأت كتاب «تاريخ العرب الحقيقي» للباحث الفرنسي «بيير روسي» ، وهو فرنسي وليس عربي، يذكر في كتابه هذا ويؤكد بقوله: «إن الإغريق أمة قطفت ثمار جهود تسعة آلاف عام وثمار من زرع قبلها من الأمم، الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية، في هجراتٍ كانت على دفعات هائلة كشلالٍ بشري اندفع في عصورٍ موغلة في القدم، وغمر بلاداً عديدة، وقارات واسعة .
هذه الهجرات حملت معها حضاراتها الراقية بالنسبة إلى تلك الأزمنة وثقافاتٍ لا تزال أثارها باقية في البلاد العربية»، ووصف هذه الهجرات المؤرخ شوقي ضيف في كتابه «العصر الجاهلي» هذه الهجرات وكأنها برميل هائل ، تتدفق منه البشر على كل من حوله.
ويتابع المؤرخ «بيير روسي» كلامه فيقول: «هذه الهجرات حملت معها أبجدية وعلوماً تشهد عليها الآثار التي اكتُشفت في مناطق عديدة من البلاد العربية، وبصورة خاصة شمال سورية، مما جعل الكثير من الباحثين ينتقدون الإدعاءات المشكوك فيها ، والنظريات غير العلمية حول أصل الحضارة».
وأعتقد أن الحضارة التي يقصدها الكاتب ليست فقط المظاهر المدنية من فنون عمرانية، وعلوم صناعية، وتقنيات زراعية، بل إنها سلوك وأخلاق وعدل ووفاء، وحقوق إنسانية انتصرت على شريعة الغاب ، التي كانت سائدة في العالم، ولا تزال الحضارة هي الرقي الفكري، والروحي الذي جاء بهما الإسلام.
ثم يتابع الباحث «بيير روسي» فيقول: «لقد قلّل كتّاب التاريخ في بلادنا بملء إرادتهم من قيمة أصولهم وجذورهم الثقافية والحضارية بإرجاعها إلى اليونان. وهو تقدير خاطئ وغير واقعي، غايته مذهبية وسياسية، لا ثقافية أو حقيقية، وهو تقويم خاطئ وانحياز مذهبي وسياسي وضعه مؤرخو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية سادة الوثائق التاريخية للعهود القديمة الذين وجهوا الترجمة والتفاسير في خدمة أمجاد الغرب الأوربي، وجعلوا الشرق العربي تلميذاً يتلقى العلم، وهذا خطأ فادح، وكأنهم يجعلون منبع النهر مصبه ونهايته لا بدايته، ويتابع الباحث قوله: «لذلك نأمل نحن البحاثة والمفكرين والعلماء بصورة خاصة إلغاء هذا الدجل القديم والجهل الذي كان تاريخهم ضحيةً لهم، وعليهم وعلى العرب ليس فقط نسيان ما تعلموه من أساتذتهم بهذا الشأن بل عليهم البحث الدقيق أيضاً لكي يقدموا لأجيالهم معلومات صحيحة، أقول هذا لأنه من المؤسف حقاً أن البعض من العرب صدقوا ما قيل لهم من أن أرسطو وأفلاطون قد أثرا في الفكر العربي لأن العكس هو الصحيح.
مع الأسف لقد خفضنا نحن الأوربيين من مكانة هذه الأمة العربية وسخرنا منها ونكاد ندفنها حية» . وتابع هذا الباحث قوله: «إنني أتطلع إلى اليوم الذي تعاد فيه كتابة التاريخ بشكل دقيق يعتمد على الوثائق المفهرسة التي لا يمكن الطعن فيها، وتقوم على علمٍ موثق وعلوم الآثار بعيداً عن جدول الفرضيات الذي يدرّس في مدارسنا وفي العواصم العربية. لقد قبل المؤرخون ما قدّم لهم وهذه ثغرة خطيرة انزلق فيها العرب، وهذا أخطر من الجهل بالتاريخ».
من الملاحظ أن معظم الكتابات في العهود الاستعمارية تحاشت بشكل ملحوظ ذكر كلمة عرب واستبدالها بكلمة آسيا أو الشرق الأدنى والشرق الأوسط كي لا يوجد رواج لكلمة عرب في الحقول الثقافية والتاريخية. وقُسمّت هذه الأمة العربية لسامية وحامية ، أطلقها العالم النمساوي «شلوتسر» عام 1781م على جميع من هاجر من شبه الجزيرة العربية بشكل عام من العرب، وهذه التسمية عارضها الكثير من علماء التاريخ واللغات لأنها غير علمية، وأن أساسها سياسيٌ وليس علمياً، والأصح أن يقال الشعوب العربية، لأن هذه المجموعات من البشر انحدرت من هذا الجزء من العالم ويجب أن تسمّى باسمه، وأن تُرد التسمية إلى الأصل، ويقال الشعوب العربية لا سامية وحامية، وإذا ذكرت العرب قسمتهم إلى عرب بائدة وعرب مستعربة، «أي لا يوجد عرب» وإنما أمة بائدة لم يبقَ منها أحد.
ومما يؤسف له وتأكيداً على قول الباحث «بيير روسي» كان حلم ومازال مؤرخي الوثائق التاريخية في العهود القديمة، دفن الشعب العربي حياً ، أو تشويهه وبتر جذوره ، ووصف كل من يتكلم عن التراث العربي بأنه إنسان متخلف يعيش بين الأموات. وبذلك أسسوا التبعية وعمقوها في وجدان أبناء شعبنا منذ الطفولة. وأرادوا بناء الإنسان العربي فأنشئت المدارس الخاصة في البلاد التي استعمروها، وكانت البداية في تحطيم اللغة العربية واستبدالها بلغاتهم ، كما ذكر الكولونيل «مارتي» : «يجب على الشعب نسيان العربية واستبدالها إما بالأمازيغية أو الفرنسية، وهذه كانت خدعة ، فالذي يجد في الأمازيغية صعوبة يلجأ إلى الفرنسية الجميلة ، والمعلمون الفرنسيون هم خلايا لهذه السياسة، ويجب اعتبار أنفسهم جنوداً ووكلاء ضباط لقيادة حرب ضد اللغة العربية التي تمثل كيان الأمة لأن اللغة هي الوعاء الأمين الذي يحمي فكر الأمة وهويتها وجنسيتها، وهذا يجب تغييره والقضاء عليه».
والحقيقة لا يمكن استبدال حضارة بأخرى إلا بعد تدمير الأولى، وهذا ما أرادت فرنسا فعله بالجزائر وفشلت. وأسباب فشلها كتاب الله القرآن الكريم التي حافظت على لغتها بواسطته، وحملت مسؤولية الحفاظ على هذه اللغة جمعية العلماء المسلمين في الجزائر بقيادة العلّامة بن باديس، فلغتنا العربية خالدة خلود القرآن ، وهذه الحقيقة ملزمة لكل مسلم أو غير مسلم في عالمنا العربي والإسلامي، لأنها ليست مجرد ألفاظ بل هي شعور نفسي وعقلي أكده علماء النفس على مر العصور، لأن لها أبعاداً نفسية وهي ظاهرة اجتماعية، وهي من أجمل لغات العالم وأوسعها وأقدمها تاريخياً، وتنوع اللهجات أمر طبيعي تفرضه الظروف المعيشية والهجرات المتعاقبة منذ أقدم العصور، وظاهرة اللهجات منتشرة بين جميع شعوب العالم، فمثلاً سكان أطلنطة في الولايات المتحدة الأميركية حينما يزورهم أحد من مدينة هيوستن يحتاج إلى وقت كي يفهم اللهجة، وكذلك في إنكلترا الكل يتكلم اللغة الإنكليزية ولكن بلهجات مختلفة وبصورة خاصة مدينة لندن.
هذه الفروق في اللهجات المحكية في أقطارنا العربية تختلف بين مدينة وأخرى ، وقطر وآخر ، لكن الجميع حينما يريدون الكتابة يعتمدون على اللغة العربية لا على اللهجات المحكية، فمثلاً نقول بالعامية أي باللهجة المحكية «بلشت» ولكن نكتبها «بدأت» وهنا الاختلاف ليس فقط بتغيير حرف .
ومثالاً على ذلك نقول «مي» عندما نعطش ولكن عندما نكتب نقول «ماء» ، ويشتد التقارب بين اللهجات رغم تباعد المسافات الجغرافية، قال الأديب البريطاني الكبير «الدكتور شارل باربر» أستاذ اللغات في جامعة كامبردج( ): «إن اللغة العربية تمتاز بصلاحيتها لتأدية الأغراض العلمية والفنية وشتى العلوم العالمية الحديثة لأنها تمتاز بالقدرة على التعبير الدقيق، لكونها أغنى لغات العالم بالمشتقات، وأقدرها على التوليد ، وهي ثرية جداً بالأصول، والمفردات اللغوية التي لا مثيل لها في اللغات الحية في العالم كالفرنسية والإنكليزية مثل حرف «إنّ» و«قد» وغيرها من الأحرف التي يريد منها الكاتب إثبات ما يريد قوله». ثم يتابع الدكتور «باربر» في كتابه المذكور: «إن اللهجة هي شكل معيّن من أشكال اللغة تستعمل من قبل مجموعة هي جزء من مجموعة أكبر تتكلم اللغة ذاتها. وأن اللغة الحامية السامية تتميز بصفات فريدة لأنها تستخدم جذوراً لغوية واحدة ذات أحرف ساكنة استمدتها من الهيكل اللغوي الأم بالإضافة إلى المثنى، الذي لا يوجد في اللغات الأخرى.
فمثلاً «ذكر الأستاذ عبد الوهاب منصور( ) عضو الأكاديمية في المملكة المغربية عن اللهجات فقال: «إذا ذهب أحد من أبناء سلطنة عمان (المهرة) من غرب السلطنة إلى مناطق جبال الأطلس في المغرب العربي، يستطيع بسهولة بالغة فهم لهجاتهم بسبب التقارب العجيب بينهما»، وأكد على ذلك الرحالة الألماني (هانز هولفوتيز) في كتابه (اليمن من الباب الخلفي).
وكذلك العديد من المؤرخين الأوربيين والسفراء الذين عملوا في البلدين وهذا التشابه يؤكد على أن سكان تلك المناطق عرباً وليسوا برابرة، هذا التشابه قائم أيضاً بين الأحباش وسكان جنوبي الجزيرة العربية والأقصر وأسوان والسودان. وهذا ينسحب على الموسيقى والأغاني وليس فقط على اللهجات، والمدهش أن التشابه قائم في العمران والعادات واللباس، فمثلاً إذا انتقل أحدٌ فجأة من مناطق تعز أو الحديثة ، إلى قلاع أمزيز أو التلوات في جبال الأطلس ظنّ أنه مازال في تعز.
وفي اللهجات القديمة كانوا يستخدمون الهاء أداة للتعريف بدلاً من« الـ» ومنهم من كان يستعمل كلمة «بر» يعني الابن. والواقع أن هذه الأبحاث اللغوية كتب عنها مختصون وعلماء لغويون المجلدات، ولكن مع الأسف ظهرت في الماضي القريب كتب باللهجة العامية ككتاب «نحو عربية ميّسرة» لأنيس فريحة الأستاذ في قسم العربي في الجامعة الأمريكية في بيروت وغيرهم، كالتحفة العامية .
هذه الكتب أخطر من استخدم كتابتها بالحرف اللاتيني ككتاب «قواعد اللهجة اللبنانية السورية» للأب رافائيل نخلة، وكتب لسعيد عقل.
تقول الأديبة اللغوية الدكتورة نشأت ظبيان في كتابها «حركة الإحياء اللغوي في بلاد الشام»: «أن كل هذه التحديات الخطيرة لم تستطع النيل من اللغة العربية، وإنما أذكت الشعور القومي واستحثت اليقظة والوعي اللغوي المتكامل».
وأصدر الدكتور سعيد شهاب الدين رداً على تلك المحاولات المشبوهة في رسالة تحت عنوان «دعاة العامية هم أعداء الأمة العربية»، وأيضاً أوضح الشاعر الأستاذ شفيق جبري بمقالات لغوية عديدة أخطار تلك المحاولات الفاشلة ، وعالج تلك الفكرة مستنداً إلى فقه اللغة العربية متخذاً من قانون تطور اللهجات حتى الوصول إلى أرقى ما توصلت إليه اللغة العربية الفصحى.
فالأمة العربية تتكلم باللغة العربية بلهجات مختلفة واللهجة لا تسمى لغة برأي العلماء لأنها لا تملك أصولاً لغوية تنفرد بها ولا قواعد تختص بها ، لذلك جمع اللغويون في أوائل القرن الخامس الميلادي كل ما كان يدور على ألسنة القبائل العربية ، ونظموها في كيان واحد، فاستبعدوا من هذه اللهجات المهجور ، والشارد، والصعب، والدخيل، والمتروك. وتكاملت اللغة الفصحى وأخذت شكلها النهائي بشهادة نصوص الشعر الجاهلي التي يرجع تاريخها إلى أوائل ذلك العصر، وأصبحت اللهجات لغة واحدة وهي لغة الأدب والفكر، نظم بها الشعراء العرب أشعارهم وأخذت تنتشر بسرعة بين القبائل اليونانية، كما يذكر الدكتور جواد علي( ) في كتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام» والدكتور شوقي ضيف( ) في كتابه «العصر الجاهلي».
وبات يتكلم بهذه اللغة كل العرب ، وانتقلت إلى الجنوب في نجران، وقبائل الأزد، وفي الحجاز، وقامت على أثر ذلك حركة إحياء لغوي قوية في سائر أنحاء المناطق العربية، وقد دوّن الملك أبرهة عام 543 م وثيقة بمناسبة ترميم سد مأرب، وما كاد ينتصف القرن الخامس الميلادي حتى غزت الفصحى جميع المناطق وانتصرت على جميع اللهجات، ولكن ظلت اللهجات المحكية يتكلم بها العامة من الناس، كالسريانية والعمورية والآرامية والأمازيغية في المغرب العربي، أما من يريد الكتابة فيكتب باللغة الفصحى.
ونزل القرآن الكريم بهذه اللغة الجميلة ، وقال تعالى في سورة يوسف آية 2 ( ){إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون}، وفي سورة الزمر آية 28( ) {قرآناً عربياً غير ذي عوجٍ لعلهم يتقون}.
يذكر اللغوي الكبير اللبناني أحمد فارس شدياق في كتابه «سر الليالي في القلب والإبدال» في عهد الخليفة العثماني السلطان عبد العزيز يقول في هذا الكتاب: «لم يكن المتقدمون قد اشتغلوا بهذه اللغة الشريفة التي عشقتها عشقاً وكُلّفت بها، حتى صرت لها رقّاً ، سهرت فيها الليالي، باحثاً ما خفي منها واستتر، وقارنتها باللغات الأخرى، فوجدتها بالمقارنة مع غيرها من اللغات تتميز بالمرونة والإحكام القياسي، ودقة القواعد، وانتظام الاشتقاق، وصحة التنسيق، تلك مقومات لا تدانيها لغة أخرى.»، ويتابع فيقول: «أما الاشتقاق وسائر الأساليب الأخرى، فليس لسائر اللغات كما للعربية، فهي أفضلهنّ وأشرفهنّ وأكملهنّ، فهنّ الفقيرات وهي الغنية ، وهنّ المتشاكسات وهي السويّة، في غيرها ترى اسم الفاعل من مصدر، واسم المفعول من آخر، أي مثل الثوب المرقّع. أما العربية فهي كلوحة ذات أفنان ، لا يزال ظلها ظليل وموردها عذباً صافياً، ولكن العرب والحق يقال لم يقدروها حق قدرها، ولا عرفوا أنها الفاضلة وغيرها المفضول( )».
المصادر والمراجع
1- الدكتور شواربي كتاب (تاريخ الأدب في إيران) ص 19- 1968.
2- الأسس الاقتصادية في الإسلام – بديعة الحسني الجزائري- دار الفكر 1996ص 70-73.
3- الدكتور شارل باربر كتاب (قصة اللغة) أستاذ اللغات في جامعة كامبردج 1972- 1964.
4- جواد علي كتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام).
5- أحمد فارس شدياق (غنيمة الطالب ومنية الراغب)، 1288 اسطنبول.
6- الدكتور شوقي ضيف كتاب (العصر الجاهلي)، دار المعارف، مصر 1976، ص426.
7- محمد العرباوي كتاب (البربر عرب قدماء)، 1993، الرباط.
8- الباحث الفرنسي بيير روسي كتاب (تاريخ العرب الحقيقي)، باريس، ترجمة فريد جحا، 1976.
9- عبد الوهاب منصور (محاضرة في الندوة اليمنية) عام 1989.
10- كتاب اليمن من الباب الخلفي- 1979.
الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون - سورية