
العربية في لغتها المبدعة
أ. فوزي العبيدي
يحاول ان يشيع البعض ان القومية ليست مذهبا فلسفيا ولا هي نظرة متكاملة الى الوجود وانما كانت في افضل ظروفها مجموعة شعارات سياسية اطلقت في ظروف الصراع الجماهيري ضد الاستعمار وخلال مرحلة الاستقلال الوطني لبعض الأقطار العربية كسورية والعراق ومصر لانهما عمق الامة العربية ومن سنين الماضي القريب. لقد انجرف كثير من المثقفين بهذا الادعاء واعتبروا ان الفكر القومي العربي لم يتكون بعد وانه لايزال في طور المعاناة والانفعال بينما ينبري بعض (الماركسيين) ليدللوا بوجود كيان فكري متكامل للماركسية على ان القومية العربية محتاجة الى تبني هذا الكيان الفكري جاعلة منه عقلها النظري واداة نضالها وكفاحها السياسي والحضاري في آن واحد والمشكلة في هذا الموضوع هو الخلاف أساسا حول ما يعينه الفكر القومي العربي فهل هو حقا (المقال السياسي الخطاب الحماسي، المنشور الحزبي وبعض الدراسات والكتب التي كتبت والفت تحت عناوينه الصارخة والمباشرة). وهل ان الماركسية التي اصبح اليوم من المتعذر حقا على أي مثقف مختص ان يعين اين تبدأ وأين تنتهي هذه الماركسية كما نراها اليوم اليوم بأضعف حال وليس لها أي دور في المنطقة بعد ان كادت تصبح كشيع وطوائف واديان الماضي. هل هذه الماركسيات غير المحدودة نادرة حقا على الالتصاق الحيوي الطبيعي بفكر الامة العربية لتكون عقلها واداتها لفهم العالم والتعامل مع غدياته في وقت واحد. هذا التساؤل تظل له مشروعيته دائما ما دام الاختيار الفاصل لاي مذهب فكري او اجتماعي لا يمكن في مدى منطقيته الخاصة ومعقوليته الذاتية. واما فكر القومية العربية غير الموجود على شاكلة المذاهب الغربية المتكاملة ومن بينها الماركسية ذاتها فان له مع ذلك وجودا اخر قد لا نلتقي به تحت أضواء العناوين والشعارات حتى التي تردد اسماءه ومسمياته أي حتى التي تفرض نفسها على انها هي فلسفة للقومية العربية او ثقافة مطواعة لها معبرة عن اصالتها وافاقها معا. ذلك اننا اذا ابتغينا حقا طلب الفكر القومي أي الفكر المعبر عن شخصية الامة العربية حيال ظروفها الذاتية والموضوعية فعلينا ان نستقرئ الثقافة العربية كلها باعتبارها وحدة متكاملة تؤلف المعادل الذهني لوجود الامة في التاريخ فالفكر القومي العربي تمتد اصوله من الجاهلية في شعرها ونثرها وقيمها البطولية وتقاليد مواقعها الإنسانية في الصراع ضد الصحراء ومن اجل حضارة ذاتية تكشفت معالمها عبر ذلك الغنى الفذ بالمعنى في اللغة العربية وهي لغة البداوة ومع ذلك فقد احتوت منذ البداية على مقومات اشتقاقية جعلت منها بناء ثقافيا يتصف بشمول النظرة العفوية للامة الى أشياء العالم وحالات النفس والذهن وشكلية العلاقات الفردية والاجتماعية بحيث ان هذا الشمول الذي يتجاوز الغوالب اللفظية العامة الى سلم لا نهاية له من الحالات الجزئية واللمحات الاتية فكلمة (كالحب) عبر عنها العربي بعديد من الالفاظ الأخرى (كالعشق والهيام والغرام والهوى … الخ) وهي كلها ليست الفاظا مترافدة ولكنها تدلنا على أحوال خاصة لهيجان الحب تتراوح بين اللطف والعنف بين المس والنفس بين الاتية والامتداد الزماني وكل ذلك نستطيع ان نتبينه من فحصنا اللغوي والنفسي لعائلات الالفاظ الحية المعنوية التي تحفل بها اللغة العربية. فما ان حل عصر الترجمة حتى استطاعت لغة الشعر ان تبنى كذلك لغات عديدة للفلسفة والعلوم الإنسانية والمادية.
الفيلسوف العربي (زكي الارسوزي) كان الاوحد في عصرنا حيث اختصر تطور الثقافة الغربية الذي اوصلها أخيرا الى مواجهة الخليل اللغوي فانطلق منذ الثلث الأول من هذا القرن الى بناء فلسفة متكاملة تستند الى تحليل اللغة العربية ذاتها باعتبارها هي النتاج الثقافي الأول لتجربة الامة منذ عهد بداوتها او طورها الحضاري الأول. لقد دلنا الارسوزي على الطريق المؤدية الى بناء تجربة رحمانية جديدة تكون على مستوى مطامح الامة وتحديات العصر معا وهذا الطريق يسلك بنا مباشرة الى المقياس الأصلي الذي تقدمه لنا لغتنا العربية في بنيتها الحدسية والصورية. لقد حلل الارسوزي نماذج كثيرة من الالفاظ العربية ليكشف عن دلالات الموقف العقلي الأصلي للثقافة القومية. رأى الارسوزي ان مجموع هذه الدلالات من تؤدي الى فهو الفلسفة الأولى للامة.
الزمان
|
|
|