الإلغاز النحوي صور متعددة في النثر والشعر

آدم يوسف

 «الإلغاز النحوي وأمن اللبس» دراسة نحوية أعدّها أستاذ النحو والصرف في جامعة الكويت د. عبدالعزيز علي سفر، تتناول  موضوع الإلغاز في المسائل النحوية والصرفية واللغوية، والوسائل المتبعة للوصول إلى التعمية اللغوية، وتتناول كذلك العلماء الذين بحثوا هذه المسائل سواء من تحدث عنها في مسائل فردية، أو من خصص لها كتابا جمع فيه ما يتعلق بقضية الإلغاز.

 كان النحو العربي ولا يزال هدفا للنقد قديما وحديثا، فمنذ أن كتب ابن مضاء القرطبي كتابه الشهير في الرد على النحاة تتابعت المصنفات التي يُجمع أصحابها على اتهام النحو العربي بالخضوع المطلق لسلطان المنطق الأرسطي، والإغراق في الصناعة، وتعقيد التقعيد حتى شاعت عن النحو مقالة تؤكد أنه «العلم الذي نضج حتى احترق».

كان للمنظومات النحوية والمتون وشروحها وحواشيها وتقريراتها النصيب الأوفى من هذا الهجوم، أما مصنفات الألغاز النحوية فقد عُدَّت عند كثرة من الباحثين نموذجا للرياضة العقلية الخالية من الجدوى والتي ليس من نفع وراءها غير كد الذهن في غير طائل، ولعل إيثار السهولة  ذهب بكثير من الباحثين إلى إهمال هذا الجانب من النشاط البحثي عند النحاة، حتى ليمكن أن يقال: إن الألغاز النحوية هي الإنجاز النحوي المنسي بالنسبة للدارسين المحدثين.
وترتبط أهمية أمن اللبس في نظرية النحو بالوظيفة الأولى للغة التي تنظر إلى أمن اللبس باعتباره غاية لا يمكن التفريط فيها لان اللغة المُلبسة لا تصلح وسيلة للإلهام والفهم، وإنْ أَعطاها النشاط الإنساني استعمالات أخرى فنية ونفسية.
ولعل الألغاز قد وجدت طريقها من خلال الالتفاف حول هذه الوظيفة الأساسية ليكون همّها الأول تحقيق اللبس بوسائل مختلفة وإن كان تحقيق أمن اللبس سيظل دائما هو الغاية القصوى للاستعمال اللغوي.
وغايتنا هنا هي أن نجعل من هذا الانجاز النحوي الذي تحاماه الكثيرون موضوعا للمدارسة والتأمل لنكشف عما وراءه من ثراء نظري وعن دوره في الكشف عن تعالق النظم اللغوية، وما له من قيمة تعليمية تطبيقية ليست لدى المختص دون قيمتها النظرية بحال.
يقع البحث في خمسة مطالب هي :اللغز في اللغة والاصطلاح، والدرس النحوي للألغاز، وتصنيف الألغاز، ومجالات الألغاز ووسائل التعمية، وكذلك الألغاز وأمن اللبس، ويتضمن البحث مطلب أخيرا محتواه ما خرج من نتائج.
في اللغة والاصطلاح
«اللغز» ميلك بالشيء عن وجهه وصرفه عنه، وذكروا فيه ثلاث لغات لُغَز واللَّغْز واللُّغز.
وأصل اللغز الحَفْر في جحره يحفره اليربوع  حجره تحت الارض، وأما في الاصطلاح فيقال ألْغز كلامَه، وألْغز في كلامه، إذا عمَّى مرادَه ولم يبيِّنه وأضمره، على خلاف ما أظهره، وقيل أورى فيه وعرّض ليُخفي.
ومن أقوالهم في هذا: رجل لغّاز أي وقّاع في الناس، كأنه يلغز في حقهم بكلام يُعرِّض بالذم والوقيعة، وهو مجاز ويقال: الزم الجادة وإياك والألغاز، قال وهي طرق تلتوي وتشْكل على سالكها.
ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه مرّ بعلقمة بن القعواء يُبايع أعرابيا ويلغز له في اليمين، ويرى الأعرابي انه قد حلف، ويرى علقمة أنه لم يحلف، فقال عمر: «ما هذه اليمين اللغيزاء؟» أي ما هذه اليمين التي فيها تعريض وتوريه وتدليس؟. ذلكم هو مفهوم اللغز في اللغة.
ويستطرد الباحث معرفا اللغز في الاصطلاح النحوي، يقول: وجدنا الزمخشري «ت 538هـ» يقول في مقدمة أحاجيه: «مسائل نحوية مسوقة في مسالك المحاجاة، منسوقة في سلك المعاياة، لا تستملي منها مسألة إلا سقطت على أملوحة من الأمالح العلمية، وأفكوهة من الأفاكية المحكية تُراض بشكائهما ريّضات الأذهان حتى ترجع بعد جمحات».
ويقول السيوطي «ت 911هـ» في آخر الجزء الثاني من الأشباه والنظائر تحت عنوان «الطراز في الألغاز»: «هذا هو الفن الخامس من الأشباه والنظائر وهو فن الإلغاز والأحاجي، والمطارحات والممتحنات والمعاياة».
فبينما يرى السيوطي ذلك من باب المطارحات والامتحان والمعاياة يرى أبونصر الفارقي في ظاهر الألغاز قبحا وخطأ وفسادا ودفنا في غامض الصيغة، صوابها وكانت ظواهرها فاسدة قبيحة وبواطنها جيدة صحيحة.
ومما تقدم نرى ان الأصل اللغوي في هذا اللفظ هو الحفر في الأرض بشكل ملتوٍ يضلّ فيه السالك، ولا يهتدي فيه إلى سبيل، وأن ما جاء في الاصطلاح إنما هو مبنيٌّ على هذا الأصل وهو سوق الكلام على وجه لا تهتدي معه إلى صواب إن بنيت نظرتك فيه على ظاهر مسبوك، ولابد لك من البحث والنظر حتى تهتدي الى حقيقة ما يريده الملغز.
الدرس النحوي
صنف كثير من المتقدمين في الألغاز فألفوا كتبا، وجاءت ألغاز بعضهم رسائل، بل إنك تجد لبعض النحويين واللغويين البيت والبيتين، وممن صنف في الألغاز:
الزمخشري: ألف النحوي الزمخشري كتيبا في الألغاز صدر في طبعتين الاولى باسم «الأحاجي النحوية»، وهي بتحقيق مصطفى الحدري وصدرت في العام 1969 في مدينة حماة السورية، والطبعة الثانية باسم «المحاجاة بالمسائل النحوية» بتحقيق الدكتورة بهيجة باقر الحسني. وقد صدر الكتاب عن دار التربية في بغداد سنة 1973 .
الكتاب الثاني هو «الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب» مؤلفة أبونصر الحسن بن أسد الفارقي «ت487هـ» وقد حققه وقدم له الأستاذ سعيد الأفغاني ونشرته مؤسسة الرسالة العام 1958،  وجاءت الطبعة الثالثة العام 1980 .
وألف ابن هشام «ت 761هـ» في الألغاز واسم كتابه «موقظ الوسنان وموقد الأذهان» وقد حققه اسعد خضير ونشر في سورية.
وجمع السيوطي في الجزء الثاني من «الأشباه والنظائر» مؤلفات في الألغاز.
تصنيف الألغاز
الناظر فيما ورد من ألغاز وأحاجٍ في الكتب الأصول عند الأقدمين يمكنه أن يورد عليها من أشكال التصنيف ضروباً، وصورا مختلفة.
وفيما يأتي تفصيل القول في أمر تصنيفها، كما وردت في دراسة الباحث د. عبدالعزيز سفر:
ألغاز نثرية وشعرية:
لقد جاء بعض هذه الألغاز نثرا، وبعضها منظوما، ومما جاء نثر ألغاز الزمخشري التي ساقها تحت عنوان «الأحاجي النحوية»، فقد ألف خمسين لغزا نثرا، ولم يأت في كتابه هذا لغز واحد شعرا، ومن ذلك الألغاز التي ساقها الحريري في مقاماته، فقد ساقها في المقامة الرابعة والعشرين، ونقل منها السيوطي تسعة، وللسيوطي نفسه مجموعة من الألغاز ساق منها في «الأشباه والنظائر» سبعة عشر لغزا، ثم اتبعها بالحل، ومن هذا الباب ما نقله من ألغاز الشيخ عزالدين بن عبدالسلام.
وجاء بعض هذه الالغاز شعرا، ومن ذلك ما وضعه الفارقي في كتابه «الإفصاح» فقد ساق ثمانية وخمسين ومئتي بيت، ضمنها ألغازا مختلفة الموضوعات وجميعها من مراجع المتقدمين، ومما كان يحصل بينهم من مناقشات ومراجعات في مجالسهم.
ويدخل تحت هذا التقسيم أحاجي السخاوي، التي جمعها السيوطي، وجاءت جميعها شعرا.
وقد جمع السيوطي ألغازاً تحت عنوان «طائفة أخرى من ألغاز النحاة»، أضف إلى ذلك ألغاز ابن لب النحوي، فقد ذكر النحوي أنها ألغاز منظومة مشروحة ثم قال: «ولم أعرف لِمَن هي»، ويقول في خاتمتها «فهذا تمام الشرح في طرز القصيدة اللّغزية في المسائل النحوية، مما قيده ناظمها إبانة لغرضه، والله الموفق للصواب».
وهناك متفرقات جاءت شعرا أيضا ومن ذلك ما نقل عن المعري في الإلغاز بـ «كاد» وإلغاز ابن الصائغ في «إلا» للاستثناء، ومن ذلك ما ذكره ابن الشجري في أماليه من أبيات مُلغزة سئل عنها وما ألغز فيه عزالدين بن البهاء الموصلي في «أمس» والتفتازاني في «لدن غدوة» وغيرهم.
أما الفارق الجوهري بين الألغاز الشعرية والنثرية، بحسب الدراسة، فمرجعه غالبا ما نعرفه عن الوزن الشعري والقافية من ظواهر تفتح الباب واسعا للتقديم والتأخير، واستثمار رخص الضرورة الشعرية مما لا نجد له في النثر نظيرا مشابها، ولعل ذلك يكون سببا في تفشي ظاهرة الإلغاز النحوي في الشكل الشعري، ويجيء معظم الألغاز النثرية في شكل أسئلة مباشرة تتطلب من المتكلم جوابا يتكئ على المعلومة النحوية.
ألغاز مباشرة وألغاز غير مباشرة
المقصود بالألغاز المباشرة ما جاء على صورة سؤال في مسألة نحوية أو صرفية، أو حرف من حروف اللغة.
ونلحظ أن الغالب على هذا النوع أن يكون من الألغاز النثرية، على حين يندر هذا النوع في الشعر؛ إذ اللغز يأتي في الشعر غالبا في صورة قول متضمن لموطن الإلغاز والإلباس، ويكون المطلوب ضمنا هو الكشف عن وجه الصواب، فيما ظاهره اللحن، والخطأ بفضل تأمل ونظر، وهذا النوع الأخير هو ما نسميه الألغاز غير المباشرة.
ألغاز مصنوعة وأخرى مروية
ومعظم هذه الألغاز جاءت مصنوعة، نظَمها أصحابها قصد الإلغاز، وقليل منها جاء مرويا عن شعراء معروفين، وإطلاق الألغاز على هذا الصنف هو مجاز بحسب المآل، وإنما ألجأهم النظم إلى التقديم والتأخير والحذف والزيادة، فنشأ عن تركيبة البيت غير ما أراده. وما يدخله في هذا الباب من أبواب اللغة.
ومن ذلك قول ذي الرمة:
فطاعنت عنا القوم حتى تبددوا
وحتى علاني حالك اللون أسود
ومن ذلك في الإفصاح قول عمر بن أبي ربيعة
أمسى بأسماء هذا القلب مجهودا
متى أقول صحا يعتاده عيدا
وقول جرير:
فما كعب بن مامة وابن سعدى
بأجود منك يا عمر الجوادا
ولقد ورد أكثر هذه الألغاز في مصنفات النحو في صورة شواهد كانت موضوعا للجدل النحوي من تخريج أو ترجيح أو حكم بالندرة أو الشذوذ.
الغاز بسيطة ومركبة
في النوع البسيط من الألغاز يكون مدار الألغاز على مسألة واحدة أو حرف واحد ويغلب أن يكون ذلك في الألغاز النثرية المباشرة، وذلك كما جاء في أحاجي الزمخشري: «أخبرني عن مكبّر ومصغّر، هما في اللفظ مؤتلفان ولكنهما في النية والتقدير مختلفان».
مُبيطر ومسيطر إن صغرتهما قلت: مبيطر ومسيطر، بلفظ التكبير سواء.
أما النوع المركب فيجتمع فيه ألوان شتى من الألغاز ترجع  إلى استخدام وسائل متعددة للتعمية في اللغز الواحد، ومثال ذلك قول الشاعر:
أقول لخالد يا عمرو لما
علتنا بالسيوف المرهفات
ومما يجدر ذكره هنا ان الجهة في الأعم الغالب متنقلة بين هذه التقسيمات فمن المباشر ما هو شعري، وما هو نثري ومنها ما هو بسيط وما هو مركب ومن الشعري ما هو مباشر وما هو غير مباشر ومنها ما هو مروي وما هو مصنع وما هو بسيط وما هو مركب ومن ثم تتداخل هذه التقسيمات وتتقاطع على ضروب شتى، وان كانت تحكم العلاقات بينها اتجاهات غالبة على نحو ما أسلفنا بيانه.
ويتطرق الباحث في دراسته إلى موضوعات الإلغاز موضحا أن الأصل في هذه الألغاز أنها تعالج مسائل لغوية ونحوية وصرفية في مجملها، غير أن بعضها لم يتعرض لشيء من هذا، بل تناول أمورا خارجة عن هذه المادة اللغوية، ومن ذلك الإلغاز في مسائل تبدو ذات صلة بالفقه، من حيث أن ظاهرها يمين، وذلك كقوله: «أخبرني عن حَلفٍ ليس بحلف».
وتشير الدراسة إلى مجالات التعمية ووسائل الإلغاز متوقفة عند المجالات التي وجد فيها الملغزون متسعا لتحقيق التعمية والوسائل التي اعتمدوها في صياغة ألغازهم، ويمكن القول على جهة الإيجاز إن مجالات التعمية قد تحددت في مستوياتها المختلفة وأهمها: مفارقات النظام الكتابي، وكذلك مفارقات المكتوب للمنطوق، وتداخل مستويات اللغة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، وكل أولئك يقود إلى مستويات من الإلغاز تختلف بساطة وتعقيدا، تبعا لدرجات التداخل، وتعالق المستويات.

الكويت