أ. بيار لوي ريمون
يكاد المرء أن يقع مغشيا عليه عند مشاهدة آخر جلسة استجواب الحكومة في البرلمان الفرنسي هذا الأسبوع.
يومها، قامت قيامة قصر بوربون ولم تقعد عندما بادرت نائبة برلمانية عن تشكيلة «الجمهوريين» المحسوبة على اليمين المعتدل، باتهام وزيرة التعليم الفرنسية نجاة فالو بلقاسم بـ»بث الشقاق في صفوف الأمة الفرنسية» و»النيل من تماسكها» بإدخال اللغة العربية في منظومة التعليم الفرنسي (وقد دخلته في الواقع منذ ستة قرون)، بعد أن أعلنت الوزيرة إدخال تعديل واسع النطاق على مناهج تعليم اللغات الأجنبية المدروسة في السلك الابتدائي الفرنسي، ومنها العربية، لإعطاء دراسة هذه اللغات في فرنسا مزيدا من التألق والإشعاع الدوليين.
قامت قيامة البرلمان ولم تقعد عندما دعت النائبة بالويل والثبور وعظائم الأمور على اللغة العربية – التي باتت محل تعديلات الوزيرة، إلى جانب لغات أخرى لتقوية تدريسها في المدارس العمومية للجمهورية الفرنسية – متهمة لغة الضاد بأنها لغة «حكر على جالية» ولا تعدو كونها كذلك. «فأحرى وأجدى بالوزيرة»- تابعت النائبة – تكريس أولويات السياسة التربوية الفرنسية لتدريس اللغة الفرنسية – والفكرة غير المعلنة ولكن المتداولة في أكثر من وسط، أن تعلم العربية يعزز الأصولية والتطرف، فضلا عن أنه «يسرق» ساعات درس كانت ستخصص لتعليم لغات توصف بالـ»أكثر أهمية» مثل الإنكليزية والألمانية والصينية…
كما لم تتوان المنتخبة عن تقديم سلم أفضلية تعليم اللغات الخاص بها – المتكون من الانكليزية والألمانية وكذلك اللاتينية واليونانية القديمتين – صحيح أنها لغات يعتبر تدريسها مهما، لكن من غير المقبول تقديم الفكرة في قالب المعيار الذي لا بد من اتباعه لإنقاذ الأمة الفرنسية من «تفسخ آت في بيتها لا محالة».
اللغة العربية لغة «حكر على جالية» إذن فلنجر الأمور في هذه السطور هذا المجرى ثم لنحكم.. ولكن قبل ذلك دعونا نطرح جملة من الأسئلة:
ماذا ستقول النائبة مثلا لصاحب هذه السطور الذي لا ينتمي لجالية عربية لا من قريب ولا من بعيد ويكتب مع ذلك هذا المقال بلغة الضاد؟
ماذا ستقول النائبة إن كتبت لها – وأتمنى أن تكتب لها ـ زيارة معهد العالم العربي في باريس، وهو الذي يعدّ واحدا من أكثر المؤسسات الثقافية الفرنسية تألقا في الدوائر الفكرية العالمية. هل ستقول عن آلاف السياح الذين يؤمون المعهد سنويا إنهم ينتمون لـ أو يمثلون «جالية»؟ هل ستقول عن مئات الباحثين الذين يقصدون معهد العالم العربي للمشاركة في ندواته ومؤتمراته إنما يقيمون ندوات ومؤتمرات «جاليات»؟ هل ستقول عن خطوة طفل صغير يريد إهداء أمه بطاقة فريدة من نوعها من مكتبة المعهد تخليدا لعيد الأم، إنها خطوة «حكر على جالية» و- لم لا- فرصة لتعزيز الأصولية والتطرف؟ ماذا ستقول البرلمانية عن قسم الآثار الإسلامية في متحف اللوفر؟ هل هو أيضا قسم «جالية» وأداة فاعلة لإنتاج متطرفين من الطراز الرفيع؟
ماذا ستقول منتخبة الجمهورية الفرنسية عن ذلك السيل العارم من الاتفاقات وشراكات التعاون والعقود التي ما عادت تعدّ ولا تحصى بين كبريات شركاتنا الفرنسية وكذلك متوسطها وصغراها ودول منطقة الخليج؟ هل هي عقود واتفاقات «جاليات»؟ ثم ماذا ستقول النائبة عن لغة تعدّ من قلة اللغات الرسمية المتداولة في منظمة الأمم المتحدة ؟ هل ستقول عن صناع القرار الناطقين بالعربية في الجمعية العامة أو مجلس الأمن إنهم يتعاطون لغة «جالية»؟ وماذا عن العولمة التي تفرض ضوابطها الاقتصادية علينا فرضا، أن نتمكن من أكبر قدر ممكن من اللغات وليس مجرد الإنكليزية خلافا لمعتقد ساذج؟ هل ستقول نائبتنا إن العولمة مسألة «جاليات» أيضا؟
وماذا عن القطاع السمعي البصري الخارجي الفرنسي الناطق بالعربية؟ هل تلفزيون فرانس بمثابة 24 قناة «حكر على جالية»؟ فلم لا يني أصدقائي الصحافيون ورجال الأعمال في كامل انحاء العالم العربي يشيدون بقدرة هذه المؤسسة الإعلامية على تقريب الشأن الفرنسي لمن هم مقيمون في العالم العربي ولا يمتون إلى جاليات قاطنة خارجها بأي صلة؟
ليس مجرد استهجان للغة العربية وثقافتها وآلها، أقدمت عليه هذه النائبة بهذا الخطاب الذي اقشعرت له أبدان كثيرين، وفي الجمعية الوطنية الفرنسية نفسها – وإنما أبرزت النائبة أمام الملأ جهلها التام بأصول تحديات مستقبل لا تغيب عن طفل عمره خمس سنوات وهو في ساحة المدرسة محيط بأصدقائه القادمين من كل بقاع العالم.
اللغة العربية، «حكر على جالية «إذن، فليكن…وإن كان الأمر كذلك فلنقل الكلام نفسه عن سائر لغات العالم ولنغلق أبوابنا وراءنا جميعا وقولوا على الإنسانية السلام.
القدس العربي