
عربة اللغة في انزلاق
أ. وجيه حسن
لا تظنّوا بينكم وبينَ أنفسكم أنّ صرختي هذه، هي الصّرخة الأولى التي أطلقُها الآن، وتسمعونها بملء عقولكم وأحاسيسكم وآذانكم، ولكنّ الفضاء العربيّ منْ أقصاه إلى أقصاه، إلى أدناه، ، امتلأ بمثل هذه الصّرخات الغيورة، التي جرّحَتِ المسامع والنفوس، وحفرت فيها عميقاً، لكنّها ـ بكلّ أسفٍ بالغ ـ لم تستطع إيقاظ الغافلين، ولم تتمكّن منْ تغيير الواقع الرّاهن بالصورة الفُضلى، والشّكل الأمثل! ولكنْ وعلى رأي المثل: ".. أنْ توقدَ شمعة.. خيرٌ من أنْ تلعنَ الظلام.."! الصّرخة آنفةُ الذِّكر، هي الشّكوى منْ "ضعفنا" بلغتنا العربية الأمّ، لغة قرآننا الكريم، لغة تراثنا المجيد، لغة الآباء والأجداد، لغة سيبويه، والشّريف الرّضي، والمتنبي، والشاعر اليمانيّ المرحوم "عبد الله البَرَدّوني"، والدكتور طه حسين، والكاتب الكبير عباس محمود العقّاد، والشاعر المرحوم سليمان العيسى..! أقول: إنّ الشكوى قديمة، ولا تزال العَرَبة "عَرَبة اللغة" في انزلاقٍ وانحدارٍ مُوجِعَين، ثم ما زالت أصابع الاتهام تُوجّهُ إلى وزارة التربية مرّة، وإلى المعلم حيناً، وإلى الطالب حيناً آخر، وإلى وزارة الثقافة، والأهل، والمناهج، وطرق التدريس، والشّارع العربيّ، ووسائل الإعلام في أحايين كثيرة، "الفيس بوك مثال".. التّهمة خَطِرة.. والمتّهمون كُثرٌ.. الحقَّ أقول: "إنّني سأكونُ ساذجاً مُغفلاً إذا ظننتُ حالماً، أنّ مقالي هذا، أوْ أنّ مئاتٍ منَ المقالات والخواطر والكتابات، والمحاضرات والنّدوات واللقاءات، سوف تعملُ على تبديل الواقع اللغوي الثقيل، أو محاولة تغييره، أوْ أنْ تُزحزح صَخْرَته الجاثمة فوق ألسنتنا وعقولنا وصدورنا بآنٍ معاً، فسلطة الواقع اللغوي المشار إليه - وبمنتهى الألم والتّأسّي - أقوى مِنْ حناجرنا، وأصلبُ منْ أقلامنا، وأقسى مِنْ اتّهاماتنا!! لكنّ الأمر المهمّ، بل الأهمّ، الذي يدعو إلى التفاؤل بقطرة الضّوء بآخرِ النّفق، ـ ونحن في هذا الصدد ـ أنه لا يزال في الأمة العربية العريقة أناسٌ أفذاذٌ أكْفِياء، يخافون على لغة الضاد، لغة القرآن، لغة التراث والتاريخ، لغة الآباء والأجداد، لغة حضارتنا الماجدة، وأنّ هناك عروقاً في جسد هذه الأمة وكيانها، لا تزال تنبض، تحيا، تضخّ..
وممّا لا ريب فيه، فإنّ أحداً منْ سكان المعمورة، لا يستطيع أنْ ينكر، أنّ لغة أيّة أمّة إنما هي وعاء ثقافتها، وعنوان شخصيّتها، ودليل عافيتها؛ وأنّ إهمالها، أو الاستهانة بها، إنما هما قتلٌ لقيم هذه الأمة، واندثارٌ لتاريخها، وطمسٌ لوجهها التليد، وتحطيمٌ أكيد لرفعتها، وتنكّر مُجْحِف ظالمٌ، لأولئك العُظماء الغابرين، الذين حفظوها لنا برونقها وبهائها وقوّتها، عبر القرون، وعلى مرّ السنين، فهُم أوصلوها إلينا بأمانة العلماء وحرصهم، وحصافة الرّجال الأوفياء.. ثم يزيدُ بعضهم جُرْعَة استهزائه بهذه اللغة، قائلاً بلسانٍ أعورَ أصمّ:
"إنّها لغةٌ مُتهالِكة، مَهيضةَ الجناح، غير متطوّرة، لا تصلح لتدريس الطبّ والهندسة والرياضيّات، ولا حتى لتدريس التربية الرياضيّة ـ البدنيّة ـ بحجة أنّ قوانين هذه العلوم وأنظمتها، إنّما جاءتنا منْ هناك، منْ وراء البحار والمحيطات"! ونسيَ هذا المُتغافل المُتحامل، أنّ نظام اللغة العربية "نظامٌ معياريٌّ، يمكن تحديد الصواب منَ الخطأ عند مُستعمِلِهِ، استناداً إلى سَنَنِ العربية في النّحو والصّرف واللغة"، حسب منطوق د "سمر روحي الفيصل"، في كتابه المهمّ القيّم: "أسلوبيّة الرواية العربية"... وإذا كانت أمم الأرض قاطبةً، تحترم لغاتِها، وتذودُ عنها، وتتشدّدُ في استخدامها على عافيتها وصوابها، فما أجدرنا نحنُ العرب بذلك، لأنّ لغتنا هي لغة قرآننا الحكيم، "إنّا أنْزلناهُ قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون.."، لأنّها الوجه الحضاري المضيء للأمة، ولأنّها لغة أدبنا، وتاريخنا، وماضينا التليد، وحاضرنا المَعِيش، ومستقبلنا المفتوح على المَدَى.
والأسئلة التي تطرح نفسها بهذا الخضمّ، مفادها: كيف نستطيعُ معالجة هذا الخِصام النّكِد بين إنساننا العربيّ، وبين لغته؟ بينَ أجيالنا الصّاعدة، وبين الكتب: "خِيرَةِ الأصحاب"؟ بين حياتنا الاستهلاكيّة المقيتة الجوفاء، وبينَ بحور المعارف، وثروات العلوم؟ بينَ أهوائنا البَهْلوانيّة، وعقولنا المتعطّشة للمعرفة؟ ثمّ كيف نستطيعُ - بأيِّ السُّبل، والمُغريات - أنْ نغرسَ في عقول أبنائنا وبناتِنا حبّ الكتب؟ ومتعة القراءة والمطالعة؟ ونبيّن لهم بإقناعٍ وترَوٍّ الثمارَ اليانعة التي يجنونها ويحصدونها، منها، ومنْ حضور تلك الأمسيات، وهاتِهِ الندوات، وهاتيكَ اللقاءات الأدبية والفكرية والفنية والمسرحية والموسيقية؟ وينبغي أنْ نطالبهم – كآباء وأمّهات ومُربّين ومعلّمين وموجّهين، وقدْر المستطاع - بمحاولة الابتعاد عنِ الحياة المجانية البلْهاء، وعدم تضييع أوقاتهم في أمورٍ حياتيّة تافهة غثاء، لا تُغني ولا تُسْمن.
العروبة
|
|
|