|
اللغة العربية ومشروع الأمة الحضاري.. الرباعي
عزيزة السبيني
واجهت الحضارة العربية الاسلامية تحديات عديدة عبر المراحل التاريخية الطويلة وأخطر هذه التحديات تمثلت بحملات التبشير والإرساليات التعليمية والغزو الفكري، والاستشراق ومحاولات الطعن بالعروبة والإسلام بصورة عامة.
واللغة العربية بصورة خاصة، وذلك من خلال الطعن بالأدب العربي القديم وصحته، وأيضاً من خلال تشجيع اللهجات المحلية لتفتيت اللغة الواحدة، لغة القرآن الكريم، والابتعاد عن الحرف العربي بداعي التغيير.
ومنذ بدايات الاستعمار تحول الغزو الثقافي الى عملية فرض فكري متفرع عن الغزو السياسي وملازم له، وقد عدت اللغة أكبر وسائل انتشار الغزو الثقافي وأشدها، وهي سلاح الغزو الأقوى فسياسة التتريك في الشرق، وإحلال الفرنسية في المغرب العربي، والانكليزية في افريقيا وسواها.. واليوم تواجه العربية خطراً أشد قساوة لأنه يشمل التاريخ والدين والثقافة والموروث الاجتماعي فعلى العرب أن يسارعوا لمواجهة خطر العولمة الذي يحدق بلغتهم التي تشكل هوية الأمة والحاضنة لها.
انطلاقاً من هذه التحديات تمحورت جلسات اليوم الثاني من مؤتمر اللغة العربية ومشروع الأمة الحضاري الذي عقد في دمشق بالتعاون مابين المجلس العالمي للغة العربية ووزارة الثقافة، وذلك ضمن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية حول اللغة العربية بين الواقع والمرتجى فتحدث الدكتور عبد القادر الرباعي عن لغة الشعر والقيم الحضارية للأمة مشيراً الى أن الشعر كان ولايزال أحد أبرز وجوه الثقافة والحضارة العربية، ففي الحضارة العربية كان لسان العرب كلاماً، وهذا الكلام كان معينها على الفتح المبين، ولايزال قريباً على بعده الزماني، ومهما تبدل الزمان ودوافع المكان وآفاقه وأبعاده ومقاصده، يظل الأدب كالعلم ينقلنا من تناهي الواقع الى لامتناهي الوجود، مؤكداً على دور الشعر بوصفه أحد أبرز وجوه الثقافة العربية في الدفاع عن قضايا الأمة والانسان.
في حين تحدث الدكتور محمد خليفة الأسود عن مستويات لغتنا المعاصرة بين الواقع واستشراف المستقبل مميزاً بين مستويات ذات سمات خاصة يمكن تصنيف الأداء في اللغة العربية على أساسها، وتتمثل هذه المستويات حسب رؤيته، مستوى لغة القرآن الكريم، ومستوى لغة القراءة والكتابة ومستوى لغة المثقفين، وأخيراً مستوى لغة البيت والسوق، مشيراً الى أن هذه المستويات محكومة بعوامل نفسية واجتماعية وتتحرك ببطء إما الى أعلى وهو مستوى لغة القرآن الكريم، أو الى أسفل وهو مستوى لغة البيت والسوق، متسائلاً عن حركية مستويات اللغة العربية المعاصرة هل هي متجهة نحو الأعلى بمعنى أن العرب في المستقبل سيستخدمون مستوى لغة القراءة والكتابة أم أن الحركية متجهة الى أسفل، وهي أن العرب سيستخدمون في تخاطبهم مستوى أقل من مستوى لغة البيت والسوق داعماً بحثه بمجموعة من الشواهد والأمثلة الموضحة لتساؤلاته.
وتناول الدكتور أسعد سكاف العربية باعتبارها لغة علم وتعلم وتعليم مركزاً على النقاط التالية: 1 ـ اللغة نشاط اجتماعي وليست توقيفاً.
2 ـ العلاقة بين اللغة والفكر علاقة جدلية، اللغة تولد فكراً والفكر يولد لغة
3 ـ العربية ليست بدعاً بين اللغات، وقد أثبتت قدرتها على استيعاب ماأنجبه الفكر العربي متحفزاً متوثباً وهي قادرة على مثل ذلك، وأكثر إذا ما استعاد الفكر العربي طاقاته الابتكارية والابداعية.
4 ـ تعليم العلوم باللغة الأم أجدى في الفهم والتفاعل من تعلمها بغير اللغة الأم
5 ـ الدعوة الجادة الى نهوض المجامع اللغوية العربية بهذه المهمة التربوية القومية الحضارية والحرص على الاستعداد الكامل للنهوض بهذه المهمة العظمى ولانرتجلها ارتجالاً تجهض معه كل الآمال والهمم مؤكداً في ختام بحثه أنه لايمكن القيام بأي حركة علمية عربية، وأنه لامجال لانتشال الفكرالعربي من حالة الاستهلاك التكنولوجي، والانتقال به الى حالة الانتاج، إلا إذا علمنا العلوم باللغة العربية، مع مراعاة تعلم اللغات الأجنبية ودعمت الدكتورة مريم حمزة آراء الدكتور سكاف باستعراضها واقع اللغة العربية في لبنان ومآلت إليه من تراجع وإهمال نتيجة عوامل متعددة، أهمها الاحتلالات المتعاقبة التي حاولت تغريب لبنان، وفصله عن محيطه العربي وآخرها العولمة الزاحفة سياسياً وعسكرياً، وغزواً ثقافياً ولغوياً.
العربية والاستنهاض الحضاري العالمي
تحت هذا العنوان تحدث الدكتور صابر عبد الدايم يونس عن ظاهرة التلاقي بين الأدب العربي والآداب الأخرى، مثل الأدب الفارسي والأدب الهندي واليوناني، مستعرضاً مظاهر التأثر والتأثير بين الأدب العربي وهذه الآداب متمثلة بالتأثير الشخصي والفني والفكري والتأثير في الموضوعات وأوجه التلاقي بينها وثمارها اللغوية والحضارية، ووقف على الظواهر الفنية بين الآداب في الوقوف على أسرار اللغة والكشف عن اتجاهاتها وخصائصها وأثر الترجمة في تنمية الوعي والتقريب بين الأمم مدعماً بحثه بالشواهد المناسبة من أثر اللغة العربية في اللغات الأخرى كالتركية والفارسية والأردية، مؤكداً على التلاقي بين الآداب وثماره الحضارية واللغوية التي تفتح الطريق أمام الشعوب لمعايشة تجارب جديدة ورؤية متطورة، وتصور رائد مع ضرورة احتفاظ كل أدب بمعالم بيئته، وملامح هويته، وخصائص لغته وثقافته ثم قدمت الدكتورة ريما الجرف دراسة إحصائية عن أهم المعاجم العربية المتوفرة على شبكة الانترنيت وعدد المواد والمشتقات والمفردات التي تغطيها ومدى مواكبتها للتطورات اللغوية والعلمية التي تستجد بصورة يومية، ومدى احتواء هذه المعاجم على المفردات الجديدة ومواكبتها ودقة المقابلات التي تقدمها لبعض المصطلحات الحديثة وجوانب القصور فيها.
ومن أكثر الأبحاث إثارة للجدل هو ماعرضه الدكتور محمد مقدادي عن اللغة وإعلام العولمة، معتبراً أن اللغة معقلاً من معاقل الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية كونها تعبر تعبيراً دقيقاً وأميناً عن ذات الأمة وشخصية الشعوب المنتمية لها، والتي تنفرد بما يميزها عن الشعوب الأخرى التي تتحدث بلغة غيرها، فتمارس بها طقوسها، وتشتمل عليها مفردات علومها ومنجزاتها التاريخية والحضارية، ما جعل من اللغة إفرازاً خاصاً تمايزت به الشعوب فيما بينها وتعاملت معه بقدسية عالية، حتى بات المساس به مساساً بمكون أساسي من مكونات الأمة التي تفخر بامتلاكها له. محذراً الى أن عولمة السياسية والاقتصاد والأمن جعلت العالم يسير الى غابات ضلاله، استجابة لطغيان منطق القوة، فإن لقوة البغي مآربها التي لاتبلغ شيئاً منها إلا باستكمال حلقة العولمة، لتشتمل على الأعلام واللغة، بغية الولوج الى أقصى فجوات الروح، وإمعاناً في اضطهاد الأمم، وإعادة تشكيل نسيجها على النحو المطلوب.
وشدد الدكتور شعيب مقنونيف على حيوية اللغة العربية، ومواكبتها للمد الثقافي العالمي بما تمتلكه من خصائص التفوق على العديد من اللغات، ومن ثم حتمية العرب في عدم الاستغناء عنها لأنها ذات أثر حضاري ومعرفي كبير، بالإضافة الى أنها لغة القرآن الكريم.
وختم المؤتمر أعماله بمجموعة من التوصيات تم التركيز فيها على ضرورة تمكين اللغة العربية لمواجهة الضغوط والتحديات التي تتعرض لها، والعمل الدؤوب على إعلائها في كل المؤسسات ولاسيما التعليمية والإعلامية مع ضرورة الانفتاح على اللغات الأخرى، دون أن يكون في ذلك استلاب للغتنا وثقافتنا، وأشار المشاركون الى التجربة الرائدة في دولة الإمارات العربية المتحدة التي اعتمدت اللغة العربية لغة المراسلات مع كل دول العالم، وتعديل المناهج التربوية بما يضمن للطلاب لغة عربية سليمة.. والتركيز عليها في وسائل الإعلام.
وعلى الرغم من تركيز المشاركين في أبحاثهم على أهمية اللغة العربية في المناهج التربوية وفي الوسائل الاعلامية، إلا أننا لم نلحظ أي وجود أو حضور من قبل العاملين في حقلي التربية والتعليم، ولاسيما، الموجهين التربويين لمادة اللغة العربية، والأمر كذلك ينطبق على العاملين في حقل الإعلام باستثناء من كلف بإجراء تغطية صحفية لأعمال المؤتمر.
تشرين
|
|
|
|