د. توفيق قريرة
حين نسافر إلى أمم لا تتكلم ألسنتنا علينا أن نتواصل بألسنة أهلها أو عليهم هم أن يتواصلوا معنا بألسنتنا، حسب قوانين الهيمنة اللغويّة المرتبطة بالهيمنة السياسيّة و/أو الثقافية. ولكن توجد حالات أخرى أكثر تعقيدا من هذه قد تؤدّي إلى نشأة لغات جديدة أو شبه لغات تستعمل في التواصل الآنيّ وقد تصبح لغات قارة.
في هذا السّياق يذهب بعض المستشرقين إلى أنّ العربيّة نشأت في غير مضاربها الأصلية. فبروكلمان وبلاشير وغيرهما ذهبوا إلى أنّ العربية الفصيحة التي نظمت بها الأشعار ونزل بها القرآن في ما بعد، تشبه في نشأتها نشأة اليونانية لأنّها كانت لغة مشتركة أخذت عناصرها المعجمية والتركيبية من لهجات مختلفة ويصطلحون عليها باسم Koine (كوينيّة ) اليوناني الذي يعني اللغة المشتركة.
الكوينية اليونانية كانت تنبني بالأساس على لغة يونانية قديمة مركبة من الإيونيّة التي كان يتكلمها السكان المحيطون ببحر إيجه والآطّيّة التي يتكلهما أهل أثينا وحول هذه النواة ذات الرأسين اللغويّين أضيفت لهجات أخرى لتتولّد لغة يونانية مشتركة. وقال بعض المستشرقين عن العربيّة إنّها نشأت في الحيرة حين كانت عاصمة المَناذرة، وكان الشعراء العرب يقصدونهم من مناطق عدّة من شبه الجزيرة العربيّة لمدحهم؛ وكان هؤلاء الشعراء يتكلمون لهجات عربيّة مختلفة فابتدعوا، للتخاطب في ما بينهم ولصناعة شعر يفهمه أرباب البلاط، لغة مشتركة. هذا قياس قاسوه على نشأة اليونانية القديمة التي كانت لغة مشتركة في العالم الهلّيني، وكانت هذه اللغة تستعمل في الإدارة والجيش والمالية وفي المعاملات اليومية بين من كانوا يتكلمون لهجات مختلفة. وهؤلاء المستشرقون ومن تبنّى معهم هذا الرأي مقتنعون بأنّ العربيّة المشتركة التي صيغت بها الأشعار العربية بداية من القرن الرابع أو الخامس للميلاد لم تكن لغة يتكلمها الناس في حياتهم اليومية، بل كانت كما يقولون لغة أدبيّة تصاغ بها الأشعار والخطابة في فترة متأخّرة؛ ولمّا نزل بها القرآن قوّى حظّها في أن تكون هي اللغة الرسمية وجعلها تستمرّ إلى يوم النّاس هذا.
لو صحّ افتراض الكوينية الذي لا ينتقده كثيرون، فإنّ العربيّة نشأت خارج مضاربها: إذ هاجرت لهجات في أذهان الشعراء ومن تلك اللهجات العربية المختلفة نشأ في المهجر لسان مشترك سيصبح هو المهيمن على ألسنة العرب وكلّ من فتحت بلدانهم بعد الإسلام وانتموا إلى الدولة الجديدة المهيمنة. كان الفاتحون وهم يُدخلون شعوبا أخرى إلى الإسلام أفواجا مضطرّين إلى تعليمهم هذا اللسان الجديد، وكانوا هم أيضا ساعين إلى تعلم هذا اللسان الجديد؛ بل إنّ منهم من ساهم في وضع أسسه النظريّة مثل سيبويه صاحب الكتاب.
ترعرعت العربية خارج مضاربها الأصليّة وستطرد شيئا فشيئا لغات أخرى لتحلّ محلّها نهائيّا أو جزئيّا أو وقتيّا. أمّا اللغات القديمة فلن يكون لها من حظّ للسّفر إلاّ في عقول أهلها أو أن تجرّب نوم الحلازين في صدور أصحابها. في بلدان شمال أفريقيا مثلا نامت لغات السكان الأصليين من البربر لمدّة سنوات ولم تمت ولم تهاجر واستعادت اليوم عافيتها بأن صارت مع العربية لغة رسميّة في بعض الأقطار. بيد أنّ هذا لم يكن على سبيل المثال شأن لغات كبرى أخرى في الشرق الأدنى كالأكديّة والآراميّة، فالآرامية التي ظلت تهاجر مع الناطقين بها والفارّين من هزائمهم السياسية انتهى بها الأمر إلى أن تخسر مناطق نفوذ كثيرة أمام هيمنة العربية. واللغات قد تلتقي خارج مضاربها لأسباب عسكريّة. في بيت للمتنبّي يصف عظمة جيش سيف الدولة فيقول (تجمَّــــع فيـــــه كُـــلّ لِـــسْنٍ وأُمَّـــة * فــمَا يُفْــهِــمُ الحُدَّاثَ إلاّ التّـراجِم ). إنّ تعدّد ألسنة أفراد الجيش الواحد ظاهرة معروفة لا في التاريخ العسكريّ العربيّ القديم، بل في التاريخ العسكري القديم والوسيط عموما، خصوصا في جيوش أعتى الإمبراطوريّات. صحيح أنّ أبا الطيب لم يعاصر الحملة الصليبية الأولى التي حدثت بعد وفاته بقرن تقريبا (1096 -1099) وهي الحرب التي جمعت جيوشا من أمم مختلفة وبألسنة متباينة ومن طبقات اجتماعية متنوّعة، غير أنّه لم يكن بعيدا عن معرفة حشد الجيوش البيزنطيّة لهذا النوع من العساكر ذي اللغات المتعددة. ولا نعتقد أنّ العرب كانوا بعيدين عن هذه العادة في تأليف جيوش بمناسبة حدث عسكريّ طارئ، إذ يمكن أن تستكتب فيه الآلاف من المتطوّعين بقطع النّظر عن ألسنتهم وأمتهم، بل حتّى دينهم وما يصوّر من أنّ الجيوش كانت تتشكّل من المؤلّفة على الإيمان قلوبهم، لا يستند إلى أيّ أساس واقعيّ وتاريخيّ متين. فكلّ الحروب حتى تلك التي تحركها العقائد كان قادتها يستنفرون أكثر عدد من البشر بقطع النظر عن أعراقهم وألسنتهم وما تخفيه صدورهم من معتقدات. سيذكر المؤرّخون بوضوح كيف أنّ الجيوش العربية كانت خليطا من الأعراق حين يصبح التتار عنصرا أساسيّا في الحروب الإسلامية، وكيف نجحوا وهم تحت راية الإسلام أن يستعيدوا مدنا وعواصم كثيرة ويشيّدوا لهم ملكا حفظه التاريخ. ويذكر بعض الباحثين من أمثالT.Reinaud أنّ العساكر العربيّة لم تبن تنظيمها قبل عهد المغول على الاستعلام المسبق ولا التنظيم المعدّ سلفا، بل كانت تعتمد على شجاعة أفرادها وعلى التنظيم الآني. لا شكّ أنّ الاحتكاك البشري سيولّد احتكاكا لغويّا أو لهجيّا لم يسعفنا التاريخ بأن رصد شيئا من ملامحه.
وأخيرا فإنّ أهمّ مظهر اهتمّ به الدّارسون لنشأة اللغات خارج مضاربها هو تلك الوجوه اللغوية التي تنشأ لأسباب تجارية على المرافئ أو في ملتقى الأسواق الشهيرة وحتى مع تجّار القوافل. فلقد خلق تجّار الموانئ لغات خاصّة يتحدّثون بها وهم الغرباء يصطلح عليها علميّا باسم «البدجين» Pidgin وهي وسيلة تواصل لا ترقى إلى اللغات؛ عادة ما تتأسس حول كلمات من معجم ومن بعض التوليفات التركيبية التي تنتمي إلى لغة أساس كالإنكليزية والفرنسية وغيرهما. وبعض البدجينات يمكن أن تنجح في أن تصبح لغات أمّهات وعندئذ تسمّى لغة مولّدة أو كريولة Creole وهذا هو شأن لغات سكان هايتي أو المارتينيك الذين يتكلمون كريولات فرنسيّة وسكّان الجماييك الذين يتكلمون كرويولة إنكليزية.
كثير من نشأة اللغات خارج مضاربها الأصلية أو من حياتها محكوم بقوانين الهيمنة اللغوية. إنْ كانت لغتي هي المهيمنة في العالم لا سياسيّا فقط، بل اقتصاديا وثقافيّا فإنّي سأجد الآخرين الذين سافرت إليهم يحدّثونني بلساني ولن أحتاج أن أتكلّم بلسانهم. سيكون لساني – بعبارة علمية – في «طبقة لغويّة عليا» وهذا حالي لو كان لساني اليوم الإنكليزيّة وكان هذا حالي لو كان لساني العربية قديما في القرون الوسطى. «الطبقة اللغويّة السّفلى» هي تسمية اللغات التي تتكلّمها جماعات لغويّة لا هيمنة سياسيّة لها وثقافتها في الغالب منحسرة في حدودها الضيّقة ولغاتها لا يحتاج إليها في المعاملات المالية والتجاريّة ولا تمضى بها العقود العالمية وهذا في يومنا حال العربيّة. وكان في القرون الوسطى حال لفيف من اللغات المجاورة للغة العربية سمّتها الأعجمية ولم تكن اليونانيّة مُعدّة ضمنها لأنّها ما تزال إلى ذلك الوقت لغة الثقافة المهيمنة: الثقافة يمكن أن تدافع عن هويّة من أضعفته السياسة.
القدس العربي