نحو وصرف.. نقطة نور لغوية

أ. إيهاب الملاح

 في مثل هذا اليوم من أكتوبر العام الماضي، ولدت مبادرة "نحو وصرف" في فضاءات التواصل الاجتماعي (على موقع "فيسبوك" تحديدًا)؛ مبادرة تَغَيَّت بإخلاص وصدق رأب الصدع الحاصل في أداءاتنا اللغوية بشكل عام التي وصلت إلى درجة مخيفة من التدني والهبوط والبعد عن الحد الأدنى من السلامة اللغوية، بما يعني فقدان حيّز ضخم من الفهم والإفهام والتفهيم بين المتواصلين بهذه اللغة "الجميلة" التي تَعرَّضَت لظلم بيِّن وإهمال مخيف طوال عقود.

كان مولد هذه المبادرة تحديدًا (صفحة "نحو وصرف") ضمن مبادرات أخرى (أغلبها فردي أو يقوم على أقصى تقدير على جهود بضعة أفراد ودون أي مؤازة أو دعم من المؤسسات الحكومية أو الرسمية)؛ يعني بالنسبة لي أن قضية اللغة العربية لا تزال تكتسب في كل يوم أنصارًا جُدُدًا يروّعهم ما وصل إليه حال اللغة العربية علي الألسنة والأقلام ويُفزِعهم هذا "التلوث اللغوي" بل "الانحطاط اللغوي" الذي يسود حياتنا الراهنة بدءًا من وضع هذه اللغة في المراحل التعليمية المختلفة‏؛‏ من الابتدائية إلى الجامعة، وشيوع التسميات الأجنبية التي يطلقها بُناة المجتمع الجديد على المؤسسات والشركات والمحالّ والعمائر والفنادق والقرى السياحية وغيرها كأننا في بلد أجنبي‏،‏ والعجز عن التعليم باللغة العربية في الكليات العلمية وشيوع الأخطاء الفادحة في كثير مما حولنا من مطبوع ومقروء‏،‏ حتى لقد أصبح الخطأ أصلًا وقاعدة، والصواب استثناءً ومصادفة!
تَأكّد لي أن هناك، إذًا، من يروّعهم هذا الأمر ويكاد يشغلهم عن كل شيء آخر‏.‏ فالقضية بالنسبة إليهم قضية هُوِيّة وانتماء وحياة، قضية ثقافة وطريقة تفكير وبنية تعليمية‏،‏ قضية إزالة لحاجز الكراهية الذي نجحت الأوضاع المتدنية والسلبيات المتراكمة في إقامته بين النشء الجديد ولغته؛‏ بين المتعلم واللغة التي هي وسيلته وغايته معًا‏؛‏ بين الواقع اللغوي والعصر الذي لم ندخله بعد‏،‏ والذي سنظلّ نحن‏ -أصحاب هذه اللغة‏- خارجه ما لم ترتبط نظرتنا إلى المشكلة بمشروع حضاري تنويري‏،‏ يؤمن بالعلم وتطبيقاته وتجلّياته المختلفة على مستوى الفكر والمنهج والرؤية المتكاملة التي تربط بين اللغة والنهضة الشاملة للمجتمع والحياة والإنسان.
لقد مثّلت صفحة "نحو وصرف" واحدة من مبادرات جادّة ودؤوبة، لإعادة الاعتبار إلى "لغتنا الجميلة" والدعوة إلى البحث عن سلامة الاستخدام اللغوي؛ لفظًا وتركيبًا، صوتًا ومعنًى، شريطة أن يتم ذلك بسلاسة وبساطة، ومراعاة للواقع اللغوي العامّ. والفكرة في حد ذاتها ليست جديدة، فهي قائمة وموجودة على مر العصور، ومكتبتنا اللغوية التراثية القديمة تزخر بعشرات الكتب التي تعرضت للأخطاء الإملائية والكتابية والتركيبية، والكتب التي صرفت همّها لمراجعة الأغلاط اللغوية بأشكالها المختلفة.
لكن الجديد الذي تقدمه صفحة "نحو وصرف" هنا، في ظنّي، هو وعي القائمين عليها بما آلت إليه الأداءات اللغوية الحالية في قطاعات الحياة اليومية، العامّة والرسمية وعلى جميع المستويات، لقد وعى القائمون على الصفحة جيدًا مَواطن الخلل والاضطراب والضعف الذي أصاب وضرب أغلب القطاعات والمؤسسات والمدارس والجامعات من فقدان الحد الأدنى من الوعي اللغوي، والحد الأدنى من الاستخدام اللغوي في أبسط أشكاله وأيسرها وأهونها من طرائق للتعبير والإفصاح.
ومِن ثَم قرر القائمون على الصفحة معالجة هذا الاضطراب وذلك الخلل بتقديم المادة اللغوية اللازمة، على أي مستوى من مستوياتها (صوتًا/ صرفًا/ نحوًا/ لفظًا/ معنًى) بأسلوب عصري، وشرح بسيط، يَتَغَيَّا إيصال المعلومة اللغوية بأيسر السبل وأوضحها، مع البعد التامّ عن الدخول في دهاليز التفاصيل والإغراق في الشرح والتفصيل الذي يؤدِّي في النهاية إلى عزوف الأفراد والجماعات عن تعلُّم اللغة العربية والسعي إلى إجادتها، وهو ما نجحت فيه بامتياز مؤسساتنا التعليمية على مدار ما يزيد على نصف القرن!
لقد أثبتت صفحة "نحو وصرف" أن "الهمّ اللغوي" يشغل بال الكثيرين، ويحتلّ مساحة عريضة من تفكير أناس يحبون لغتهم فعلًا، لا من باب الاستعلاء والنزعات العنصرية البغيضة، ولكن بمنطق الرغبة في الوصول إلى أداء لغوى يتجاوز ما هو حاصل الآن، أداء لغوي مقنع بأدوات تعبيرية سليمة، أداء ينقل المعنى بوضوح ويفصح عن الفكرة ببساطة دون الوقوع في غموض وإبهام مرَدّه عدم الفهم وعدم الارتقاء بمستوياتنا اللغوية إلى الدرجة التي تمكّننا من ذلك.
تحيّة لصفحة "نحو وصرف"، وتحية للقائمين عليها، الذين أعلم أنهم من أكثر الناس كفاءة وجدارة بهذا الأمر، وصدقًا وإخلاصًا في خدمة "لغتنا الجميلة"، والعمل على تَلَمُّس جمالها وإظهار محاسنها وشيوع استخدامها بأقرب الطرق وأيسرها دون تعقيد أو غموض أو إلغاز.. ولتَحْيَ "لغتنا الجميلة" إلى أبد الآبدين.
 

اليوم الجديد