جنايةُ.. جنيت
أ. عبدالدائم السلامي
كان عرب الجاهلية جديرين بأدبهم، وكان أدبُهم جديرًا بوقتهم؛ قرؤوه بشِعره ونثره، وتفاعلوا معه، وحقّقوا الاكتفاءَ في تأويله دونما حاجةٍ مّاسةٍ إلى عُدّةٍ نظريّةٍ مُستجلَبةٍ من خارج بيئتهم الثقافية يؤوّلون بها منجزاتِ خيالِهم الإبداعيّ. فلم تُطرح عليهم آنذاك مشكلة النّقد كما هي مطروحة علينا اليومَ، ولم تكن للواحد منهم مناهج يأتَنِسُ بها في تلقّي ذاك الأدبِ سوى صفاءِ ذائقته وصدق انفعاليته وامتلائه ببلاغة منظومة قبيلته الفخرية والحماسية والقِيَمية، وهي ميزاتٌ مثّلت جهازَهم التأويليَّ وجعلت منهم مبدعين ونُقّادًا مهرة؛ كانوا مُبدِعين في صناعة القول، فلا يُخرجونه إلى الناس إلاّ بعد تَقَصّيهم عناصرَ لفظه وصورته ومعناه فصاحةً وبلاغةً، وكانوا نقّادًا مُبدِعين في تلقّي القولِ، فلا يُقبِلون عليه ويُفضِّلونه على غيره إلاّ متى تفاعل مع أحوال زمنهم وحاجات فيه انعقد حولها وجدانُهم الجمعيُّ. كان هذا دأبُ العرب القدامى في قراءة نَتاجهم الأدبيّ، وهو دأبٌ حقّق لهم أمْنَهم النقديَّ حتى بداية القرن السابع الميلاديّ، ويجوز وسمُ هذه الفترة بفترة الاكتفاء النقدي.
وقد عاش العرب فترة نقدية ثانية امتدّت من بداية القرن السابع الميلاديّ إلى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي يمكن أن أسَمّيها فترة العطاء النقدي، وفيها توهّج الفعل النقدي وبلغ أوجَهُ نتيجةَ تطوّر فعل الترجمة، وازدهار حضارة الفكر الحرّ ونماء المعرفة وتنامي فعل الاجتهاد فيها. وظاهرٌ أنّ نُقّاد هذه الفترة استفادوا كثيرا من علوم وقتهم على غرار مباحث اللغة والبلاغة والفلسفة والمنطِق وغيرها، ومن أشهر هؤلاء الآمدي وقدامة بن جعفر وابن سلام الجمحي وأبو الفرج الأصفهاني وعبدالقاهر الجرجاني وابن شهيد الأندلسي وابن رشيق القيرواني وابن بسّام ونفرٌ آخرون. وانصبّت جُهودُ هؤلاء على تحرير فعلهم النقديّ من دائرة القراءة الانفعالية زمن الجاهلية أو القراءة الإيمانية في صدر الإسلام عبر استنباط قوانين أدبهم من نصوصهم الشعرية والنثرية بالبحث فيها عمّا تنهض عليه أدبيةُ النصّ ومحاسِنُه من حيث جِدّةُ المعنى، وقوّةُ الأسلوب، وصفاءُ اللغة من الحشو ونابيّ الألفاظ، إضافة إلى وعيهم بتأثير سياقات العصر الثقافية والسياسية والاجتماعية في شكل الكتابة ومعانيها. وقد تنبّهوا إلى عيوب الشِّعر كالانتحال والإقواء والإكفاء والإيطاء (لا تَخفى هنا نباهةُ اللغة العربية في تسمية تلك العيوب بهذه الأسماء التي تنتهي بمقطع مغلق وآخر مفتوح حتى لكأنّ اللغة تقبض على العيب وتُلقي به خارج لفظها)، ولاذوا بتلك القوانين سبيلا إلى المفاضلة بين الشعراء أو بين القصائد التي مثّلت المجال الرئيس الذي اهتمّ به النقدُ أكثر من اهتمامه بمجالات الخُطبة والترسُّل وفنون النثر الأخرى لأسباب ثقافية اختصّت بها البيئة الأدبية العربية التي حكمها شعارُ «الشعر ديوان العرب».
ولا شكّ في أن انتكاسات سياسية وثقافية ولغويّة مهولة قد تعاضدت مع بعضها بعضًا لتُدخِل الفعلَ النقدي في فترة سُبات امتدّت من القرن الثاني عشر للميلاد إلى نهاية القرن التاسع عشر. وقد أعقبتها فترة وصاية نقدية امتدّت من بداية القرن العشرين إلى أيّامنا هذه، وفيها لاذ نقّادنا بجيوش من المناهج الغربية، يستدعون غثَّها وسمينَها بتَحَذْلُق مدرسانيّ، ويأتمرون بأوامرها كأنها الوحيُ الذي يحميهم من كُفْرِ النصوصِ، فارضين سُلطتَها على إبداعنا حتى يَخْضعَ كلّ نصّ لوَهْمِ سُلطانهم، وهل أفسد النقدَ إلاّ وهمُ سُلطةِ النُقّاد؟
وفي هذا الشأن أحرصُ على تأكيدِ حقيقةِ أنّ القراءة التي تكتفي ببنية النص وشكله تقتله، ولا تنتج إلا كلاما مَيْتًا، ذلك أنّ أيَّ نصٍّ إنما هو كائن حيّ يتأثّر بمعيش ناسه ويؤثِّرُ فيه، وله شخصيّةٌ ثقافية محمولةٌ في جسدٍ لغويٍّ، أعني له جينات ثقافية خاصة، فيها كلُّ ما به يتميّز عن غيره من النصوص الأخرى؛ ملامحُه الشكلية، ومكانُه، وزمانُه، وكاتبُه، ومَجازُه، وسياقُ كتابته، وقِيَمُه، وضعفُه، وقوّتُه، وإيقاعُه، وأحلامُه، وأسرارُه، وحياؤُه، وطبيعةُ فعله في المتلقّي. ولعلّ في كتاب «الأدب في خطر» وعيا جريئا من تودوروف – وإن كان متأخّرًا ـ بضرورة عدم الاكتفاء النقدي بأشكال النصوص وبُناها والاهتمام معها بقيَمِ الكتابة الإبداعية، لأن «الهدف النهائي للنقد هو فهم معاني النصوص» في اتصالها بالخارج. ولا أُخفي قولي إنّ أكبر جناية تعرّضت لها قراءة الأدب العربي المعاصر هي «جناية جنيت» وأتباعه من النقّاد.
وربّما تجلّت بعض ملامح تلك الجناية في أنّ مَن يحملون صفة «نقّاد» لا يُحوّلون قراءاتَهم النصوصَ الإبداعيةَ إلى نصوص إبداعيةٍ جديدةٍ، نصوص ممتعة بعباراتها ومقنعة بمضمون إشاراتها، وهو ما يشي بكونهم عاجزين عن فعل القراءة الأدبية بل وعن جني ثمارها الفنية والقِيَمية. هم يقرؤون نظريات السرد ويحفظون ما فيها من أوامر ويطبّقونها على النصوص تطبيقا مدرسيا بعيدا عن الفعل القرائي الحقّ الذي يتخلّق منه المعنى بالمُحاوَرة والمُناوَرة. فما يكتبه هؤلاء النقّاد لا يزيد عن كونه توصيات وتفسيرات ونصائح هم غير مؤمنين بنفعِها أصلا، وأزعم أنها لو كانت نافعةً فعلاً لنفعتهم هم أولا في تذوّق نصوص الإبداع وفي كتابة نصوصهم الإبداعية. النظريات الأدبية لا تصنع قُرّاءً للأدب، وإنّما تصنع قُرّاءً لها هي فحسبُ. وفي اتصالٍ بهذه المسألة لا أنسى الإشارة إلى أنّ كلَّ نظريّةٍ في الأدب هي أيديولوجيا، وكل أيديولوجيا تُحاول دوما أن تكون سُلطةً، وأنّ كلَّ سلطةٍ في الأرض لا يهنأ لها بالٌ إلا بخِصاءِ قدرة الناسِ على التخييلِ.
تُحيي القراءة النصَّ (النصّ الجدير بالقراءة) عندما تُقبِلُ عليه إقبالاً تستدعي فيه الكتابةُ ذاتَ كاتبها، وتستدعي فيه القراءةُ ذاتَ القارئ. وحينئذ يصير النصّ فضاءً لجدلٍ بين ذاتيْن، ذاتٍ حاضرةٍ بوعيها الواقعيّ في نصِّها، وذاتٍ تُحضِرُ ذاك النصّ فيها لتَفُـكَّ «عُجْمَتَه الرمزيةَ»، وتقدَحَ فيه معانيه، وتُضيءَ مساربَ الناسِ إليها. بل إنّي أذهب إلى القول إنّ القارئ الذي يلامس جسدَ النصّ محاذِرًا جسَّ ألغامِه إنما هو قارئ فاشلٌ وجَبانٌ، فالقراءة الحقُّ هي التي تفجِّرُ ألغامَ النصّ حتى وإنْ فجّرت معها جسدَها ووعيَها، ثم ما جدوى القراءة إذا لم تجرح فينا اليقينَ؟
لقد آن الأوان كي نكفَّ عن ترديد مقولات سرديّة مثّلت في الستّين سنة الماضية عُملةً رائجة في مجال القراءة الأدبية (كالشعرية والتطريس والعتبات والتبئير ومُربَّع غريماس السيميائي وغيرها مما هو شائع في قراءاتنا الأدبية الراهنة)، وذلك لأن بريقَها قد تآكل ولم يعد يَظهر منها شيءٌ يُحيلُ على قيمتها الإجرائية بعد أن ردّدها أصحابُ الدرس الجامعي وطلبتُهم ومنابرُ الإعلام ببلاهةٍ مثلما يردّد طالب الابتدائي محفوظاتِه المدرسيةَ بخشوعٍ لا يفقهُ غالبا جدواه. من واجب نصوصنا علينا أن نُعيد النظر في جدوى كثير من تلك المقولات حتى لا تظلّ مُكبِّلة لقراءتنا الأدبية وشاهدةَ زُورٍ على ادّعائها العلميةَ. ومن أجلى صور ذلك التزامُ القارئ فيها بما قال علاّن أو علاّنة من المنظِّرين في هذا الشأن السرديّ أو ذاك بدون أن يقول هو شيئًا ذا بالٍ في المقروء، وبدون أن يثق في مَا يمكن أن يبلغه جهدُه القرائيّ الواعي بشخصية المقروء وبسياقاته الواقعية من اقتدار على كشف معاني ما يقرأ في اتصاله بمعانيه هو ذاته. ولا يَخفى أنّ هذا الجهد القرائي راح يتضاءل اليوم في مشهدنا السرديّ، بل وصار من المحظورات البحثيةِ ومكروهاتِها أمام سطوة مقولات النقد الجديد.
القدس العربي