أ. مصطفى سليمان
كان الاتحاد السوفياتي أول دولة في العالم في طباعة الكتب. وكنا نرتاد معارض الكتب السوفياتية السنوية في ذكرى ثورة أكتوبر نقتني بأبخس الأثمان الروايات الكاملة لدوستويفسكي وتولستوي وتورغينيف وبوشكين وتشيخوف... إلى جانب الدراسات الاستشراقية لتراثنا كمؤلفات المستشرق كراتشكوفسكي وغيره.
كنت لا أقتني الكتب العلمية التخصصية جداً المؤلفة باللغة العربية، عدا الكتب التبسيطية العامة، لكنني كنت منبهراً بتعريب علوم عصرية في غاية التخصص؛ فقد زرت أخيرا صديقاً أكاديمياً وباحثاً في العلوم وتصفحت مكتبته وتذكرنا نشوة شراء كتب المعرض السوفياتي. أخذت أطالع العناوين العلمية مثل: أسس الميكانيكا العلمية، أسس تشغيل المعادن، الدَّوال ومنحنياتها، بيولوجيا الفضاء، طاقة الذرّة، نظرية الاحتمالات، أسس الميكانيكا التطبيقية، نظرية النسبية، مقاومة المواد، الرياضيات العالية... وكلها من نشر «دار مير للطباعة» في موسكو !
واليوم أتساءل مستغرباً: كيف يدعو بعض الباحثين والمثقفين العرب في بعض الأقطار إلى هجر اللغة العربية في تعليم العلوم، والطب، والهندسة، والرياضيات... في مختلف مراحل التعليم لأنها لغة ماتت علمياً، كاللاتينية والسريانية والبابلية والسومرية، وحان دفن جثتها !
هم يدعون إلى اعتماد اللغة الإنكليزية أو الفرنسية حتى نلحق بعلوم العصر، ناسين أو متناسين، التراث العلمي الضخم المترجم إلى اللغة العربية عن الفارسية والهندية والإغريقية.
يقول سلامة موسى في كتابه: البلاغة العصرية واللغة العربية، متهماً لغتنا بأنها تعكس العقلية الزراعية البدوية: فهذه اللغة «لا تُرضي مثقفاً في العصر الحاضر؛ إذ هي لا تخدم الأمة لأنها تعجز عن نقل مئة من العلوم التي تصوغ المستقبل... نحن نحاول أن نرقى بأمتنا، ولكن ما معنى الرقي؟ هذا يعني أننا نعيش العلمية حيث تستند الحقائق إلى البيِّنات لا إلى العقائد... فيجب أن تكون لغتنا علمية، وثقافتنا كوكبية، وكتابتنا... لاتينية»!
لدينا اليوم روسيا والصين والهند واليابان وألمانيا وإسرائيل وإيران والبرازيل وكوريا... وهي دول تحقق نهضات علمية كبرى في مختلف المجالات بلغاتها الوطنية، وليس باللغة الإنكليزية أو الفرنسية!
وأذكر هنا الجهود العلمية الرائعة التي يقوم بها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت بالتصدي لترجمة المجلة العلمية الأولى في العالم وهي مجلة العلوم الأميركية وفيها من المجالات العلمية التخصصية ما يدحض عجز لغتنا عن ترجمة العلوم المختلفة التي تصوغ المستقبل، كما يريد سلامة موسى.
هناك دول تستخدم الحرف اللاتيني، واللغة الفرنسية أوالإنكليزية في تعليمها أو حياتها اليومية، لكنها لا تبدع في إنتاج العلوم «التي تصوغ المستقبل»!
نعم نحن نحتاج حتماً إلى تعلم اللغات العالمية الحية، من دون الاقتصار على الإنكليزية أو الفرنسية فقط، وعلى جامعاتنا أن تقرر على طلاب الكليات العلمية مقررات تستجيب إلى هذه الحاجات، حتى إذا أراد أحدهم التخصص في مجاله العلمي في هذه الدولة أو تلك كان قادراً على التحصيل العلمي العالي هناك.
ليست القضية قضية لغة عاجزة، بل قضية عجز حضاري، ثقافي، تربوي، وعجز سياسي على مستوى نمط الحكم العربي القائم على الأعمدة السبعة للنزعة العسكرية، والتقديس السلطوي المطلق للحاكم... إنها مسألة الديموقراطية الحضارية التي تستجيب لتحديات العصر بعلومه التي تصوغ الحاضر... والمستقبل أيضاً.
يا عرب، عرِّبوا العلوم في (دار مير للطباعة) في موسكو!
الراي