اللغة العربية... ضاعت في معرض الكتاب

شهد المحاميد

 بعد أن تسلّح بما ادخره للمناسبة من دنانير، ودسّها في جيبه، ركب علاء سيارته ، قاصدا المعرض الدولي للكتاب الذي استضافته الكويت أخيرا، ممنيا النفس بالعثور على بغيته من الكتب التي يتطلع إليها وتخدمه في ما يقوم به من بحث.

علاء، معلم اللغة العربية في وزارة التربية، الذي يعد رسالة ماجستير عن «التضمين اللغوي في الحديث الشريف» والذي ينتظر المعرض لعله يحظى ببعض المراجع التي تعينه في إنجاز عمله الضخم، تقدم نحو الصالة التي تحتضن فعاليات معرض الكتاب، وما أن خطا داخل الصالة خطوات قليلة حتى لفت نظره مشهدا يشد كل من يدخل الصالة، فهناك طابور طويل من الأشخاص يكاد يصل إلى بوابة الصالة باتجاه أحد أجنحة المعرض، فيما تبدو بقية الأجنحة خالية ــ أو تكاد ــ من الناس سوى القائمين عليها. وبفضول يفرضه الموقف، أراد أن يعرف منتهى الطابور، فجاءه الرد على استفساره أن هناك في الجناح يجلس كاتب يقوم بالتوقيع على روايته الجديدة لقرائه الذين انهالوا عليها شراء، وحرصوا على توقيع مؤلفها، فازداد فضوله لمعرفة الرواية التي فرضت نفسها على المعرض ورواده، فعمد إلى التجول بين الأجنحة والبحث عن بغيته، حتى إذا ما فرغ عاد إلى حيث كان الجمع الغفير، فوجده قد خف قليلا، فتقدم واشترى نسخته التي «زينت» بتوقيع المؤلف الذي ردد بابتسامة «أرجو أن تعجبك».

تنحّى علاء جانبا وقلب صفحات ما بين يديه، فكانت المفاجأة أن الرواية ذات الصفحات التي لم تتجاوز 200، ودفع ثمنها دينارين، مكتوبة بلغة عامية مكسّرة، لا يوجد فيها جملة مكتملة الأركان بلغة فصيحة ودلالة ذات معنى، وما زاد من صدمته أنه قرأ عددا من الصفحات فلم يصل إلى نتيجة أو خيط يأخذه إلى ما يعرف بـ«خط الحدث في الرواية» فأغلقها وهو يتحسر على لغة ضاعت وسط هذا الانجراف المعاصر نحو ما يعرف بلغة وسائل التواصل.

هذا الموقف يقودنا إلى ظاهرة تأليف الكتب باللهجة العامية بدلا عن العربية الفصحى التي استشرت في الآونة الأخيرة وأخذت تغزو أرفف المكاتب والمعارض والمواقع الثقافية، وانتشرت كانتشار النار في الهشيم، وباتت تحظى بإقبال «جارف» من القراء، وهذا ما أكدته قصة علاء، ورصدته عدسة «الراي» في معرض الكتاب الدولي، من ميل القارئ لشراء كتب اللهجة العامية عوضا عن العربية الفصحى، الأمر الذي يثير تساؤلات عما إذا كان تأليف هذه الكتب غايته ربحية مادية؟ وهل غدا تأليف الكتب تجارة ليس إلا، بعدما كانت القراءة، وخاصة باللغة العربية، غاية لإثراء المخزون الثقافي والفكري واللغوي، أم أن العجز عن الكتابة بالفصحى دفع الكثيرين للهروب نحو العامية؟

فاللغة العربية لا ينقصها شيء من مفردات ومعان وفنون بلاغية، ولا تضيق في إيصال المعاني وشرحها ونقلها، فهي أوسع لغات العالم في هذا الشأن، فلماذا يلجأ المؤلفون إلى تهميشها وطمسها، والاستعارة باللغة العامية في مؤلفاتهم؟ وهل يصح أصلا تسمية ما يكتب باللغة العامية بكتاب أو مؤلف، كباقي المؤلفات التي تعجب من عظمة وقوة العربية فيها؟ وهل يدرك هذا المؤلف أو ذاك فداحة استبداله العربية الفصحى بالعامية، وأن اعتياد العربية الفصحى يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بيّنا؟ ولماذا نهجر لغتنا التي تعبر عن وجودنا إلى لغة لم تنزل في كتاب، ولم يقرها عقل؟ وكيف نسمح لأنفسنا بالسير في ركب المستعمر الأجنبي الذي يريد أن يطمس لغتنا التي هي مفتاح شخصيتنا؟

فمن خلال تجوال «الراي» في أجنحة المعرض رصدت مسميات لكتب كتبت بالعامية، منها على سبيل المثال لا الحصر «أرز باللبن لشخصين»، و«تاكسي حواديت المشاوير»، و«كتاب مالوش اسم»، و«زحمة حكي»، و«نص كتاب»، وما يلفت النظر أن بعض الكتب بدأت بمقدمة يبرر فيها الكاتب استخدامه العامية، واعترافه بكسر قواعد اللغة العربية كسرا صريحا واضحا، ومنهم من يعلل بأن العامية يستطيع فهمها البسطاء من الناس، بدلا من تعليم الناس، وبالذات الأجيال الناشئة، لغتهم العربية الصحيحة.

وتعليقا على كل ذلك، قالت الأديبة الكويتية، الدكتورة هيفاء السنعوسي، الأستاذة بكلية الآداب في جامعة الكويت، «سبق أن عقدت ندوة في جامعة الكويت عن سيكولوجية التأليف، وما أسبابها، واكتشفنا من خلال استبيان وزعه الشباب في أماكن متفرقة أن السبب أخيراً أصبح هوس الشهرة، فالنظرية أصبحت الآن أنك يجب أن تكون مؤلفا حتى تشتهر، ولكن ليس كل مبدع يولد مبدعا، نحن نعاني أزمة المبدعين الحقيقيين، وظهور أدعياء الإبداع والكتابة».

وأضافت السنعوسي لـ«الراي» أن «شبابا ليس لديهم لغة أو ثقافة، من الطبيعي أن يكتبوا بالعامية، وتأتي الفتيات المراهقات للوقوف طابورا طويلا، لأخذ صورة سيلفي مع هذا المدعي، ونشرها في مواقع التواصل، وهنا الملام دور النشر، كيف تطبع المطبعة هذا الكتاب؟، وهنا يصبح لدينا مثلث يتمثل في مدعي الإبداع، والناشر الطماع بالنقود، والمراهقات اللاتي يقفن في الصف لأخذ صورة سيلفي، ومعظمهن لا يقرأن الكتاب أصلا»، مشيرة إلى ان «المثقفين لا يضيعون وقتهم في الوقوف طوابير على هذه الكتب، وأنا هنا لا أسفّه أحدا، إنما هذه حقيقة».

وتتفق معها أستاذة علم اللغة في كلية الآداب في جامعة الكويت، الدكتورة ليلى السبعان مؤكدة أنها لا تؤيد نشر الكتب أبدا باللغة العامية، وقالت إن «من وسائل حفاظنا على لغتنا الفصحى المعاصرة على الأقل، أن نلتزم بكتابة الفصحى الصحيحة السهلة، ولا أؤيد الناس الذين يكتبون بالعامية لأن هذا من شأنه أن يصب مزيدا من الضعف على لغتنا العربية، ونحن بحاجة للمحافظة على ما تبقى من صحتها، ربما الشباب يفضلون العامية لأنها سهلة وبسيطة بالنسبة لهم، ويميلون إليها ويرغبون باستخدامها، لكن للنشر باللغة العامية تأثيرا سلبيا على اللغة العربية، ويفقدها أهميتها ولو أنها لغة خالدة محفوظة في القرآن».

ولكن في المقابل، قالت أستاذة العلوم الاجتماعية، الدكتورة سهام القبندي إن «اللغة العامية تعبر عن الشعب والمجتمع، وبالتالي هي لغة تستطيع الولوج للآخر بسهولة، والعامية لا تهدد العربية لأنها نفس المفردات ولكن تختلف طريقة اللفظ والكتابة، فعلى سبيل المثال لدينا بالخليج لهجات متشابهة، لكن بعض الكلمات تختلف من هذه اللهجة لتلك، وهذا لايعني أنها خطأ».

وأضافت القبندي «عندما نلاحظ أن نسبة المبيعات ترتفع لمصلحة كتب اللغة العامية عن اللغة الفصحى، فعلينا السؤال عن الأسباب والعوامل، ربما المواضيع المطروحة، وربما الطريقة والأسلوب، وهذه عناصر تعمل على إنجاح الكتاب، فالكتاب إذا تناولني في صفحاته سأقرأه طبعا مهما كانت لغته».
 

الراي