الجزائر وإصلاح التعليم: تحدِ لمكتسبات الثورة؟

أ. لينا كنوش

 أعلنت وزيرة التعليم الجزائرية نورية بن غبريط، في الثالث من كانون الثاني الحالي، استمرارها في برنامج الإصلاح التربوي الذي تطرحه، من خلال طبع 70 مليون نسخة من كتب مدرسية جديدة مع بداية العام الدراسي 2017 ـ 2018، على الرغم من الجدل الواسع الذي يثيره برنامجها في البلاد.

فمنذ عام 2015، أثارت بن غبريط من مشروعها لإصلاح التعليم النقاشات والجدل في الجزائر، إذ على الرغم من أن هدفها المعلن تطبيقُ آليةٍ جديدة تمثل قطيعة مع النظام التربوي المتبع، وتحفيز التربية القائمة على «التعلم المثمر»، فإنّ طرح قضية «جزأرة المحتوى التعليمي» (إدخال اللهجة العامية أو «الدارجة» على بعض مراحل التعليم)، أثار العديد من التوترات.
خلال سبعينيات القرن الماضي، أجرت الجزائر تحولاً عميقاً في نموذجها التعليمي نحو خطة قائمة على الكمّ، لا سيما مع جعل المرحلة الثانوية «عامة» للجميع، إلا أن هذا النموذج ظلّ بعيداً كل البعد عن تحقيق أهدافه في ما يتعلق بتحسين الجودة التعليمية، ومع قلّة البيانات بشأن تقييم جودة التعليم والإعداد في الجزائر التي لم تشارك إلا نادراً في التحقيقات والدراسات الدولية، أظهرت بعض الدراسات الأداء الضعيف لنظامها التعليمي.
ففي تشرين الأول 2015، شدد تقرير لمنتدى «دافوس» الاقتصادي الدولي على أن الجهود المبذولة أفضت إلى إلحاق 97 في المئة من الجزائريين بالمدارس، لكن هذا لم يُؤثر على جودة التعليم الابتدائي ويُحسّنه، بل على العكس، جاءت البلاد في المرتبة 115 في تصنيف ضم 140 دولة في هذه الفئة التعليمية.
المستوى ذاته ينعكس تقريباً في التصنيف الأخير الذي أجرته «منظمة التعاون والتنمية» هذا العام، والذي سلّط الضوء أيضاً على الصعوبات التي تواجهها البلاد في تدريس المواد التعليمية، والتي وضعتها في المرتبة قبل الأخيرة عالمياً في الرياضيات والمواد العلمية. وفي عام 2013 أيضاً، أماطت دراسة أجرتها وزارة التعليم الوطني الجزائرية اللثام عن ظاهرةٍ تكشفُ نقاط الضعف المسرطنة في التعليم الجزائري، تمثلت في «الخسارة الكبيرة» لعدد المتعلمين خلال الانتقال من التعليم الابتدائي إلى الثانوي، حيث تمكن أربعة في المئة فقط من الأطفال المسجلين في الصف الأول في المدرسة الابتدائية من انتزاع شهادة الثانوية في نهاية المطاف.
وبالاستفادة من هذا «الفشل» في النظام التعليمي، واللعب بمهارة على دعم قطاعٍ من الرأي العام لها، تطرح نورية بن غبريط نفسها كرأس حربة لإصلاح جذري للنظام التعليمي بإدخال محتويات ونماذج تربوية جديدة، في قطيعة مع استراتيجية التعليم القائمة في البلاد حتى هذا الوقت، غير أن الأسباب العديدة المقدمة لتبرير هذا الإصلاح، الذي يتخطى بمسافة واسعة حتمية «تحديث» التعليم، تضع العديد من الأقنعة السيئة على الاعتبارات الأيديولوجية والسياسية التي تحيط بهذا الغرض.
رهان هيكلي
أثار اقتراح إدخال اللغة «الدارجة» في التعليم ما قبل المدرسي والعامين الأولين من التعليم الابتدائي مرتين في 2015 و2016، انطلاقا من حجة صعوبات تعلم اللغة العربية الكلاسيكية، ثم إعلان اختيار اللغة الفرنسية في تعليم المواد العملية، غضب المدافعين اليقظين عن التعريب، ووصل الأمر إلى حد توجيههم الاتهام لبن غبريط بالتعدي على واحد من أسس الثورة الجزائرية ومشروع المجتمع قيد البناء منذ الاستقلال.
وبرفض هذه الانتقادات تحت ذريعة أن هذه الاقتراحات والإصلاحات مقدمة من الحركة المحافظة، التي أصبحت بمثابة السندان الذي تعتمد عليه، تميط بن غبريط وداعموها اللثام عن الرهانات السياسية والأيديولوجية الحقيقية، إذ يمثل رفع القدسية عن اللغة العربية وإدخال اللغتين الفرنسية والإنكليزية ـ على غرار ما قررته المغرب في شباط 2016 تحت ستارة «إنقاذ التعليم العام» - عودةً لإدخال توجهات متناقضة مع التطلعات التي أنجبتها حرب التحرير إلى النظام التعليمي.
تاريخيا، تولدت سياسات التعريب من الحاجة إلى وضع هوية وطنية، وإلقاء تاريخ الاستعمار خلف الظهر حتما، فبحسب الوزيرة المناصرة لفكرة اللغتين ـ حيث تتعايش الفرنسية إلى جانب العربية ـ لا يهدف الإصلاح أبدا إلى التعدي على الهوية الوطنية، وبالتغاضي عن الأسباب الهيكلية التي تشرح نقاط الضعف في النظام التعليمي القائم، لم تجد بن غبريط سوى سياسة التعريب لتلقي عليها جميع المساوئ التي يعاني منها النظام التعليمي.
بالتالي، لن تمر هذه القراءة الأيديولوجية التي تقدمها الوزيرة الجزائرية من دون أن تترك أثرها. فمن جهة، يأتي اقتراح إدخال اللهجة «الدارجة» في السنوات المدرسية الأولى، ليتعارض مع الوظيفة الموكلة إلى المدرسة، والتي تتمثل مهمتها الأساسية في ضمان الاندماج والوحدة الوطنية من خلال تعليم اللغة العربية الكلاسيكية.
ومن جهة اخرى، فإنه بالسعي لزعزعة الهيمنة اللغوية للغة العربية وشرعيتها الموروثة من الكفاح الوطني والرامي إلى المساواة، من أجل الدعاية لثنائية لغوية قائمة على العربية والفرنسية، تضع بن غبريط نفسها على خطى فكر مصطفى الأشرف، حيث تدعي أنها ترث مساره، وفق ما قالت خلال حوار مع مجلة «افريقيا ـ آسيا» في تشرين الثاني الماضي.
لم يكن مصطفى الأشرف منظِّر الثورة الجزائرية فقط، ولكنه كان أيضاً مناصراً للثنائية اللغوية، كما عارض بشدة مشروع التعريب الذي قدمه القوميون العرب، ففي كتابه Mémoires d’une Algerie oubliée ، أو «ذكريات عن جزائر منسية»، قدم شهادته في هذا الجانب قائلاً: «في أبريل 1977، تم تعييني وزيرا للتعليم الوطني في الحكومة الأخيرة لبومدين، وعلى الرغم من رفضي المتكرر وجدت نفسي تحت هجوم وتشهير لعشيرة من الناشطين المحافظين الذين أقاموا منذ 1962، في إطار المطاردة المستعرة على التعليم بمختلف درجاته، اتحاداً مقدساً بين الحطام الباقي لبعض العملاء القدامى والموجة الجديدة من الموالين للتعريب المسعورين وذوي العقلية المحدودة الذين سيطروا على البعث».
يمكن القول إن إعادة النظر التدريجية في مسألة التعريب واختيار الإصلاح المصبوغ بتوجهات معمول بها في الدول الغربية، لن يسمحا بتقديم تغيير عميق للنظام التعليمي في الجزائر. ففي الواقع، الأزمة في المدرسة ليست سوى عرض للأزمة العامة التي تضرب النظام السياسي.
 

السفير