انتشار اللغة العربية في بلدان البلقان

أ. محمود الأرناؤوط

 تأتي كتابة هذه المقالة مساهمة في الاحتفال بحلول اليوم العالمي للغة العربية، في 18 كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، وهذا الاحتفال أعلنته منظمة «يونيسكو» العالمية، التي ترعى شؤون الثقافة والتراث الأدبي والعمراني والثقافي في جميع أنحاء العالم، وذلك على غرار احتفال هذه المنظمة بأيام مماثلة خلال العام للاحتفال ببعض اللغات العالمية الأخرى، كالإنكليزية، والفرنسية، والإسبانية، والصينية، والروسية. وبدأ الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية اعتباراً من سنة 2012، بعد القرار الرقم 3190 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة أخذاً منها باقتراح قدمه كل من المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية خلال انعقاد الدورة رقم 190 للمجلس التنفيذي لـ «يونيسكو».

لم تفرح بإعلان الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الدول العربية فقط، بل جميع الدول الإسلامية أيضاً، لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والدين الإسلامي الحنيف. ومعلوم أن اللغة العربية انتشرت في معظم البلدان الإسلامية، ومنها بلدان البلقان في العصر العثماني، الذي استمر ما يزيد على خمسة قرون من الزمان، ويكاد الباحث لا يجد أي أثر للغة العربية في معظم بلدان البلقان في العصر العثماني بعيداً من المساجد وشيوخ المساجد، الذين نالوا قسطاً جيداً من التعليم باللغة العربية في مدارس إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، من خلال مناهجها التعليمية آنذاك، وذلك لارتباط اللغة العربية الوثيق بالشريعة الإسلامية، وانتقلت الكتب التراثية العربية الإسلامية من إسطنبول إلى مدن البلقان الكبرى وإلى عدد كبير من القرى الكبرى والصغرى من طريق الشيوخ من أبناء هذه الدول الذين درسوا في مدارس إسطنبول آنذاك، ومن طريق الدعاة إلى الدين الذين كانت ترسلهم الدولة العثمانية إلى بلدان البلقان في تلك الحقبة من الزمن. وهكذا، بدأ الاهتمام باللغة العربية من المساجد أول الأمر، ثم أسست بعض المدارس زمن العصر العثماني في معظم بلدان البلقان، التي اعتنقت الغالبية العظمى من أبنائها دين الإسلام، وكانت تلك المدارس ملحقة بالمساجد غالباً، وساهم كثير من الشيوخ والدعاة بتعليم طلبة العلم مبادئ اللغة العربية، من نحو وصرف وبيان وبديع، إلى جانب تعليمهم مبادئ العلوم الشرعية، واستمرت هذه الحال في معظم البلدان البلقانية بمدنها وقراها الكبيرة والصغيرة طويلاً. ومعظم المخطوطات العربية والمطبوعات العربية القديمة الموجودة في مكتبات كوسوفا وبعض بلدان البلقان الأخرى تعود في مجملها إلى العصر العثماني، وجميع المساجد القديمة القائمة في بلدان البلقان بنيت جميعها في العصر العثماني أيضاً.
وبعد انتهاء العصر العثماني في بلدان البلقان، وغيرها من البلدان الإسلامية، التي كانت تتبعها أيضاً، في بداية العقد الثاني من القرن الـ20 الميلادي، استمر الاهتمام باللغة العربية بين طبقة الشيوخ، ثم أسست مدارس شرعية رسمية في بعض عواصم البلدان والأقاليم البلقانية، كالبوسنة والهرسك، وألبانيا، وكوسوفا، ومقدونيا، والسّنجق، وصارت لتلك المدارس هيئات إدارية وتعليمية خاصة بها. ومن طريق تلك المدارس استمر الاهتمام باللغة العربية على أيدي الشيوخ والأساتذة الذين حصلوا على تعليمهم في إسطنبول وبعض البلدان العربية، وظهرت شخصيات علمية على جانب كبير من الأهمية في معظم الدول البلقانية ممن كان لهم اهتمام باللغة العربية في النصف الأول من القرن الـ20، من أولئك الذين حصّلوا علوم اللغة العربية وأتقنوها وعلّموها الطلاب وألّفوا فيها المؤلّفات وكتبوا فيها المقالات وترجموا منها وإليها، وأشير إليهم بالبنان في معظم دول البلقان وخارجها أيضاً، منهم: حسين جوزو، وقاسم دبراشا، وأحمد إسماعيلوفيتش من البوسنة والهرسك، وفخري أفندي إليازي، وشريف أحمدي، ومحمد غاشي من كوسوفا، وإبراهيم داليو، وعلي كورتشا، وعصمت ديبرا من ألبانيا، وحسن كليشي من مقدونيا، وغيرهم.
وأسست فروع استشراق خلال القرن الـ20 في بلغراد، وسراييفو، وبرشتينا، وكانت تتبع جامعاتها الرسمية، ولعبت فروع الاستشراق تلك دوراً مهماً في تعليم اللغة العربية لأبناء معظم دول البلقان من خلال برامجها التعليمية.
ثم كان لتأسيس كلية الدراسات الإسلامية من المشيخة الإسلامية بكوسوفا سنة 1992 دور كبير في تعليم اللغة العربية لأبناء كوسوفا من خلال المناهج التعليمية التي وضعت لها، والتحق بهذه الكلية بعض الطلبة من ألبانيا ومقدونيا أيضاً.
وكان لتأسيس المركز الألباني للفكر والحضارة الإسلامية بتيرانا عاصمة ألبانيا سنة 1996، أثر عظيم في خدمة الثقافة الإسلامية واللغة العربية وإحيائهما في ألبانيا وبعض الدول البلقانية المجاورة على مدى 20 عاماً. ولهذا المركز نشاط كبير في نشر الثقافة العربية والإسلامية في ألبانيا ومعظم دول البلقان الأخرى، ويقوم بترجمة الكتب والمصاحف من اللغة العربية إلى اللغة الألبانية، ومن اللغة الألبانية إلى اللغة العربية أيضاً، وقام بإصدار بعض المعجمات المتخصصة بالترجمة بين اللغتين العربية والألبانية بالتعاون مع بعض المنظمات الثقافية الإسلامية الشهيرة.
وجاء تأسيس مركز الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط للثقافة في مدينة برشتينا عاصمة كوسوفا سنة 2012، ليساهم بشكل ملموس في نشر اللغة العربية وتعليمها في العاصمة الكوسوفية وفي المدن الكوسوفية الأخرى أيضاً، وأقام هذا المركز عدداً من الدورات التعليمية لتعليم مبادئ اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث الشريف، وقام بنشر عدد من كتب الثقافة الإسلامية باللغتين العربية والألبانية، ويعنى هذا المركز بشؤون ترجمة الكتب من اللغة العربية إلى الألبانية ومن اللغة الألبانية إلى اللغة العربية ويدرجها في برامج مطبوعاته كل عام.
ولا بد من الإشارة بإيجاز أيضاً إلى التشجيع العظيم الذي كان، ولا يزال، يقدمه بعض أعلام العلماء ويأتي على رأس هؤلاء المفتي العام الحالي لكوسوفا، والمفتي العام الحالي لمقدونيا أيضاً.
ولا يصحّ أن يغفل في مثل هذه المقالة ذكر الأساتذة والشيوخ الذين درّسوا اللغة العربية، وما زالوا يدرّسونها، في ألبانيا وكوسوفا ومقدونيا منذ 30 عاماً وإلى الآن، ومنهم: فتحي مهدي، وإسماعيل أحمدي، ومحمد موفاكو، وعيسى مميشي، وعبدالله حميدي، وكاظم كاظيمي، ورامز زيكاي، وإلياز عبدالرحمن، ويحيى هندوزي، وفاضل حساني، ورجب يوسوفي، وأحمد صدري، وبسيم مهميتي، وفلامور صوفي، وغيرهم.
وخلاصة القول: إن انتشار اللغة العربية في البلقان منذ العصر العثماني وإلى يومنا هذا، هو سبب مهم من أسباب اعتناق سكانها دين الإسلام منذ أكثر من 600 عام، وإن حرص معظم الآباء في هذه البلدان على تعليم أولادهم اللغة العربية مقرون بكونها لغة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والدين الإسلامي الحنيف.

 
 
   
 


 

الحياة