|
|

حركات التشكيل ...أحرف تبحث عن رسم
أ. فيصل سليم التلاوي
ما تطرحه هذه المقالة لا يعدو كونه بذرة أولية، تحتاج لعناية و متابعة من دارسين متخصصين في علوم اللغة و الصوتيات، يلي ذلك تدقيق و تمحيص للفكرة من قبل مجامع اللغة العربية في مختلف العواصم العربية، فهي ليست أكثر من حجر يُرمى في بركة راكدة ليحرك سكونها، و يثير فضول الباحثين لمتابعة الأمر الذي تطرحه، و هو إشكالية حركات التشكيل ( الفتحة و الضمة و الكسرة ) التي تُعيي القراء العرب صغارهم و كبارهم.
تُعيي الناشئة منذ نعومة أظفارهم، و بداية تأملهم رسم الكلمات العربية، و عجزهم عن نطقها نطقا سليما، ما لم تكن مضبوطة بالشكل في بداية الكلمة و وسطها، كما أنها تُعيي الكبار عن ضبط الكلمة الجديدة التي يطالعونها للوهلة الأولى، و يُعييهم أكثر من ذلك ضبط أواخر الكلمات بالشكل خشية اللحن، تبعا لمواقع الكلمات الإعرابي. تلك الخشية التي دفعت الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ليجيب من قال له: - عجَّل عليك الشيب يا أمير المؤمنين!
فقال: - شيبني ارتقاء المنابر و توقع اللحن.
فعندما يطالع التلميذ المبتدئ مثلا كلمة ( كتب ) دون تشكيل و يطلب منه نطقها فإنه يجدها تصلح لأن تنطق( كَتَبَ ) و (كُتِبَ ) و ( كَتَّبَ ) و( كُتُبْ )
و ربما أكثرمن ذلك، و لو تصورت الكلمة نفسها و قد كتبت بحروف إنجليزية مثلا، (kataba) فإنك لا تجد لها غير هيئة واحدة للنطق هي (كَتَبَ).
أما القارئ المتقدم الملم بالقراءة، فعندما يطالع كلمة كتبت بحروف عربية واضحة، لكنها تقابله لأول مرة، و كُرِّرَت إلى جانبها بالفرنسية أو الانجليزية، و هي التجربة التي عايشها كاتب هذه السطورشخصيا، أيام عمله مدرسا في الجزائر في سنوات العقد السابع من القرن الماضي. و سأمثل لذلك بأسماء الشوارع التي تعبرها صباح مساء، و ذلك أقرب مثال حي، فعندما تطالع اسم الشارع مكتوبا باللغتين العربية و الفرنسية : شارع العقيد عمروش مثلا، حيث تحتار و أنت مدرس اللغة العربية، إذا لم تكن ملما بأسماء قادة الثورة الجزائرية و شهدائها، هل أنطقه ( عَمْروش ) أم (عَمِروش) أم( عُمْروش) أم ( عَمْرَوَش)أم (عَمْرَوِش)، فتجد نفسك خجلا من نفسك، و أنت تخفض بصرك لتتهجى الحروف الفرنسية، فتجدها (amerooch) فتتيقن أن لفظها (عَمِروش) مع ملاحظة أن حرف الشين بالفرنسية يعبر عنه باجتماع حرفي ch و ليس sh كما هو الحال بالانجليزية، و مثاله الشارع الشهير في الجزائر العاصمة شارع ديدوش مراد، فأنت تلفظ مُراد بصورة سليمة لأنها كلمة مألوفة لديك، و قد سبق لها أن مرت على مسامعك سابقا، أما ديدوش فتقف أمامها حائرا، إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي يقرع فيها هذا الاسم أذنيك. فهي تصلح أن تنطق (دَيْدوش)و(دُيْدوش) و (دِيْدوش) و (دَيْدَوَش) و غير ذلك كثير، و لا يخرجك من حيرتك سوى التدقيق في رسمها الفرنسي أسفل منها، (didooch murad) لتتيقن أن نطقها (دِيدوش مُراد) فما سبب كل هذه الحيرة؟
الحركات حروف تحتاج لرسم:
هذه الحيرة التي تجعلنا نقف عاجزين عن النطق السليم، سببها أن حركات التشكيل ( الفتحة و الضمة و الكسرة ) هي حروف ثلاثة ننطقها، لكنها ناقصة الرسم في أبجديتنا، و قد استعاض القدماء عن رسمها بهذه العلامات، التي مرت بمراحل متعددة، فنحن نعد أحرف العلة في لغتنا ثلاثة ( الألف و الواو و الياء) بينما هي في نطقها ستة أحرف على النحو التالي:
1- لفظ U و لها نطقان: حركة قصيرة نرمز لها بالضمة، و حركة طويلة نرمز لها بالواو.
2- لفظI و لها نطقان: حركة قصيرة نرمز لها بالكسرة، و حركة طويلة نرمز لها بالياء.
3- لفظ A و لها نطقان: حركة قصيرة نرمز لها بالفتحة، و حركة طويلة نرمز لها بالألف.
فهي ستة أحرف، مثلما هي في الإنجليزية خمسة أحرف، ( aeiou)
و بعضهم يضيف لها y لتصبح ستة، مثلما هي في الفرنسية ستة
( aeiouy)
و لملاحظة هذه الأحرف الناقصة رسما، تأمل كلمة كتبت بالعربية
و الانجليزية، ( مُحَمَّد ) مثلا و قد تكونت من أربعة أحرف مضافا إليها ضمة بعد الميم و فتحة بعد الحاء و شد على الميم متبوعا بفتحة. إن كل الحركات السابقة ما هي إلا حروف تنطق و لا ترسم عند المتعلمين، لأنهم خبروها بالسليقة و التجربة و التكرار، لكنها ترسم حركات تشكيل للناشئة و المبتدئين لضرورتها لاستقامة نطقهم، و لو انتقلنا لكتابة الكلمة بالانجليزية فسنجدها على الهيئة التالية ( mohammad) تكونت من ثمانية حروف، الأربعة الأصلية و الحركات الثلاث و التضعيف، الذي هو حرف مكرر( double letter ) و لا مجال لنطق الكلمة إلا على صورة واحدة . و لو عدنا لكلمة (كتب) التي سبق ذكرها، و المكونة من ثلاثة أحرف، و حاولنا عدَّ حروفها لو كتبت بالانجليزية kataba)) فسنجدها ستة أحرف. فحروف العلة ينبغي أن تعد ستة أحرف في الرسم مثلما هو شأنها في النطق ، فمثلما تكون (ا) للمد الطويل لا بد من رسم للمد القصير بدلا من الفتحة،
و مثلما هي (و) للضم الطويل لا بد من رسم للضم القصير، و كذلك مثلما هي (ي) للكسر الطويل لا بد من رسم للكسر القصير. على أن تدمج بين الحروف، و تصبح جزءا من الكلمة، و ليست قلقة حائرة فوق الحروف أو تحتها، تُرسم للناشئ الصغير و يُعفى منها الكبير الذي كثيرا ما يخطئ في ضبطها أيضا، إلى جانب ما تمثله رسومها من إعاقة و إبطاء للكتابة، عندما يعود الكاتب بعد فراغه من كتابة الكلمة لوضع الحركات فوقها أو أسفل منها، و لعل الحروف المنقوطة تشترك معها في عملية الإبطاء و الإعاقة، التي توجب البحث عن بديل لها غير منقوط، لكن ذلك موضع آخر لبحث مستقبلي.
تطور التشكيل عبر التاريخ:
ما نطرحه ليس أمرا غريبا و لامستجدا، و لا يخطرنَّ ببال أحد أن هذا التطوير سيؤثر على تلاوة القرآن الكريم و كتابته و حفظه، بل إنه سيسهل على قارئيه النطق، عندما تستبدل الحركات بحروف ثابتة مدمجة في الكلام، و لعل من المفيد التذكير بمراحل تدوين القرآن الكريم، للسير على نفس الخطى من التطوير و التسهيل، التي اتبعها القدماء و لم يتوقفوا عند هيئة جامدة مثلما نفعل منذ عدة قرون، و كأننا لا نتقن سوى التوقف عند كل ما هو قديم إلى درجة التقديس، دون الابتكار و التجديد بما يناسب كل عصر،
و هذا ملخص لمراحل كتابة القرآن الكريم:
1- المرحلة الأولى: تدوين الحرف، فقد كتب كلام الله بأمر رسول الله
- صلى الله عليه و سلم- و كان المكتوب هو رسم الكلمات القرآنية فقط، بينما بقي تشكيل الحروف و تنقيطها و تجويدها يؤتى بالمشافهة و السماع و التلقي.
2- المرحلة الثانية: تمت في عهد الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله
و جهه- حيث قام أبو الأسود الدؤلي بوضع علامات التشكيل، و لم تكن حركات بل نقط ( الفتحة نقطة فوق الحرف) و ( الكسرة نقطة أسفل الحرف ) و(الضمة نقطة بين أجزاء الحرف) و السكون نقطتان.
وهذه المرحلة استوعبت السابقة و حلت محلها، و لم يُلغ دور التلقي
و إنما تعزز لمعرفة كيفية هذا التشكيل المدون.
3- المرحلة الثالثة: تدوين التنقيط في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، قام بها النصر بن عاصم الليثي، حيث تم فيها و ضع النقط على الحروف المتشابهة لتمييزها عن بعضها، و أصبح القارئ يقرأ كلام الله برسمه
و تشكيله و تنقيطه، بينما بقي التجويد يؤتى بالمشافهة و السماع.
4- المرحلة الرابعة في العصر العباسي وضع الخليل بن أحمد الهمزة
و التشديد، و طور نقط أبي الأسود، لتصبح الضمة واوا صغيرة فوق الحرف، و الفتحة ألف صغيرة فوق الحرف، و الكسرة ياء صغيرة تحت الحرف، و هذا دليل على أنها حروف، فما الذي يمنع أن نجد لها رسوما مناسبة تدمجها وسط الكلام، و لا تبقى معلقة حوله؟
و تحسنت هذه العلامات بعد ذلك إلى أن وصلت إلى الصورة التي هي عليها اليوم.
وهذه المرحلة استوعبت السابقة، و حلت محلها و لم يلغ دور التلقي،
و إنما تعزز لمعرفة كيفية هذا التشكيل المدوَّن.
5- المرحلة الخامسة: تدوين التجويد والتي تمت حديثا، حيث تم فيها ترميز زمني و لوني لبعض الحروف الخاضعة للتجويد، و بالتالي أصبح كلام الله يحوي العناصر جميعها من رسم و تشكيل و تنقيط و تجويد.
فما الذي يمنع من متابعة التحسين و التيسير، لتصبح الحركات حروفا ذات رسم كغيرها من الحروف الهجائية، تدمج في الكلام ليصبح كل ما ينطق يكتب، و حروفه واضحة لا لبس فيها، و نطقه لا شبهة فيه، و لا تعدد لوجوهه.
أسئلة مشروعة:
و لعل السؤال الذي يتبادر للأذهان أولا، ما أثر ذلك على القرآن الكريم و كتابته؟ ثم هل يؤدي ذلك إلى انقطاع بيننا و بين تراثنا القديم؟
و هل ستصبح أجيال المستقبل غير قادرة على قراءة كتبنا القديمة، التي تخلو من الحروف الثلاثة الجديدة المبتكرة؟ و هل سينتهي دور مكتباتنا القديمة و ما تحويه من تراث فكري و حضاري، و تنقطع صلتنا بها،
و لا تعود أجيالنا المستقبلية قادرة على التواصل مع التراث المكتوب بالطريقة القديمة؟ و الإجابة على ذلك بالنفي القطعي.
ذلك أن القرآن الكريم نزل على رسول الله - صلى الله عليه و سلم- بلفظه فقط، و رسم بحروف غير مشكولة و لا منقوطة و لا مجودة، و إنما تم كل ذلك على مراحل لاحقة، من باب التيسير و التسهيل على القارئ، و ما تغير في نطقه شيء، فالتشكيل في بدايته لم يكن على هيئته الحالية مثلما أسلفنا، بل كان نقطة فوق الحرف أو تحته أو خلاله، ثم تطور ليصبح واوا صغيرة للدلالة على الضمة، و ياء صغيرة للدلالة على الكسرة، و ألفا صغيرة للدلالة على الفتحة، ثم تطور ليصبح حركات على الهيئة التي نستخدمها اليوم. فما الذي يمنع أن يتطور ليصبح رسوما لحروف ثلاثة، تدمج في مواضعها وسط الكلام، و لا تبقى معلقة حوله، و لتصبح حروف العلة نطقا و كتابة ستة أحرف، و يفضل أن تكون الحروف الجديدة المختارة غير منقوطة، حيث أن التنقيط مشكلة أخرى بحد ذاتها، قد تحتاج لتطوير في مرحلة لاحقة، فالتنقيط يستنزف من الكاتب نصف وقته المخصص للكتابة، و ربما أكثر من نصفه، عندما يتوقف إثر فراغه من كتابة كل كلمة، ليعاود تنقيطها ثم يواصل كتابته للكلمة التالية، ثم يتوقف ليعاود التنقيط فالكتابة و هكذا. إن التنقيط شأنه شأن الحركات يبطئ الكتابة العربية، و يحد من سرعة الكاتب، و لو وجدت حروف دون نقاط تستوقف الكاتب عند نهاية كل كلمة، لكانت كتابتنا تسير بسرعة مضاعفة، لكن تلك مشكلة أخرى يمكن أن يفكر فيها مستقبلا، و لنقصر اهتمامنا الآن على الحركات الثلاث فقط، و محاولة استبدالها بحروف ذات رسم كباقي حروف الهجاء.
من الذي سيختار رسم الحروف الجديدة:
لا شك في أن مهمة البحث في هذا الاقتراح بشكل جدي، و إجراء الدراسات التفصيلية لتطبيقه، و اختيار رسوم الحروف الجديدة، سيكون من مسؤولية مجامع اللغة العربية مجتمعة و ليست متفرقة، ليتم الاتفاق بشأنه، و تعميمه بعد ذلك على جميع الأقطار الناطقة بالعربية، ليعتمد في المناهج الدراسية، و المطبوعات للناشئة في رياض الأطفال، و الصفوف الابتدائية الأولى ثم يتطور أولا بأول.
و ستجد النشء يلتقطها سريعا، و يتعامل بها مثلما استخدم الحروف المبتكرة و المختزلة، للكتابة على الفيس بوك بأسرع مما نتخيل.
لن نحتاج لإلغاء القديم المطبوع من كتبنا، بل نعمم ذلك على الجديد من المطبوعات، و يبقى القديم على حاله. و يمكن استخدام دليل صغير لمن يجد مشقة في مراجعة كتاب قديم من الجيل الجديد، الذي نشأ على الأحرف المضافة الجديدة، يرشد إلى الهيئة القديمة التي كانت عليها الأحرف الجديدة، مثلما توجد علامات مميزة للتجويد في نهايات المصاحف، أو دليل مساعد لمن يحقق كتابا قديما كتب دون تشكيل أو تنقيط .
جهة التنفيذ:
أما التنفيذ فيحتاج لتضافر جهود وزارات التربية و التعليم و الثقافة، و كافة المؤسسات الإعلامية و الثقافية و دور النشر و دوائر المطبوعات في مختلف الأقطار الناطقة بالعربية، بعد اعتماد هذا التطوير جماعيا من قبل الجهات المختصة تحت إشراف جامعة الدول العربية. و أن يبتعد مثل هذا المشروع اللغوي التطويري عن صراعاتنا السياسية، و أن لا يتعطل أو يتعرض للعوائق، كلما اختلفت الاجتهادات السياسية لهذا البلد أو ذاك، مثلما هي عادة معظم مشاريعنا المشتركة التي نصوغها على الورق ثم لا نجد من يلتزم بتنفيذها.
هذه فكرة مطروحة للنقاش و المتابعة و الإضافة تفصيلا و تنسيقا، من قبل جميع الباحثين المهتمين بتطوير لغتنا العربية، و الارتقاء بها لتظل مواكبة للعصر في كل زمان على يد الباحثين الغيورين من أبنائها، و قبل ذلك هي مطروحة أمام الهيئات الرسمية ذات الاختصاص، و أولها مجامع اللغة العربية و مراكز الأبحاث و الدراسات في شتى الأقطار العربية.
|
|
|
|
|