أ. نزار نجار
إن نقل العلوم كم حضارة إلى حضارة يؤدي إلى إثراء الحضارة الثانية, وإلى حدوث انفجار علمي يغني البشرية جمعاء, ويزيد من تعاون الشعوب ونهوضها في مجالات الثقافة والحياة؛ وقد حدث مثل ذلك في تاريخنا العربي مرتين؛ المرة الأولى في زمن الخليفة المأمون (زمن الدولة العباسية) عندما تمّ بإتقان ودراية نقل جميع العلوم والرياضيات والفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية؛ وهذا انفجار علميّ كبير في تاريخ الدولة العربية, وقد بلغ أوج ذلك فيما تركه العلماء الأوائل, العلماء الأفذاذ الرّواد من أعمال جليلة, وآثار حميدة.
وعلى رأسهم الفارابي والبيروني وابن الهيثم وأبو بكر الرازي والخوارزمي وابن سينا وابن رشد, صنّاع النهضة والوعي العربي الأول .. صناع الحلم الثقافي التنويري والتأسيسي لوحدة الأمة ومستقبلها.!!
وكذلك في التاريخ القريب, في بداية القرن التاسع عشر, حين فطن محمد علي باشا, بعد أن آلت إليه مقاليد الأمور في مصر؛ إلى أنّ غلبة الغرب (الأوربيين) علينا إنما مردها إلى تقدمهم في العلوم والتقنية, واللحاق بهم يحتم قيام نهضة علمية, نهضة لها مقوماتها وأصولها, وهذا هو الانفجار الثاني الذي كان له أثره المتميز وفاعليته الناهضة في تاريخنا الحديث!.
أما لغتنا العربية, هذه اللغة -البحر- فقد استوعبت بحيويتها ألوان الثقافات على اختلاف ألوانها ومشاربها, وتمثّلتها بقدرة فائقة!.
هذه العربية نشأت في مهاد الجزيرة, في أرض الأجداد, أرض الصحراء الواسعة, ثم ارتحلت مع الفاتحين إلى أقاصي المعمورة, وورثناها, نحن الأبناء, في هذا العصر الراهن, ورثناها لغةً وتاريخاً وتراثاً, ورثناها سلوكاً وقيماً وتربيةً وأخلاقاً, ورثناها مواقف مشرفة, وتجربة وحياة.. هذه اللغة, لغتنا الأم التي نتكلّم بها, ونفرح ونغضب ونَبوح وننشد أرق أشعار الحبّ وأعذب نصوص النثر والإبداع!!
ونلتفت إلى تراثنا الثقافي, منذ امرئ القيس وعنترة وعمر بن أبي ربيعة مروراً بالمتنبي وأبي فراس الحمداني, إلى طه الحسين وأحمد أمين والزيات والمازني ومحمد كرد علي وعبد القادر المغربي, إلى نجيب محفوظ ونزار قباني وعمر أبي ريشة .. فنجد في مرآته أنفسنا, ونستقرئ من خلاله حياتنا, ونلاحظ أن هذه اللغة ما زالت, كما كانت في مهدها الأول, وعلى الرغم من تعاقب القرون, مفعمة بالحركة والتقبّل والانفتاح, مازالت مفعمة بالنضارة, جيّاشة بالحياة, موّارة بالتألق والصعود..
لقد أدركت هذه اللغة البداوة, بحضرها وبرها فنهضت بالمعاني, وعبرت عن نمط المعيش, وعن خلجات النفس, ونبض الروح, وقلق الوجدان؛ ثم امتحنت هذه اللغة امتحاناً تاريخياً جليلاً وعسيراً, فلقد جاءها الإسلام حاملاً القرآن الكريم؛ فتدفقت في طياتها معانٍ لا حصر لها من حيث السَّعة والدلالة ومجالات التعبير وفضاءات البيان, وفتحت قنوات لفهم الكتاب الكريم وتفسيره, وتدبّر أمر الحديث وضبطه وروايته ونقله, فكانت علوم العربية ثروة علمية تضاف إلى خزّان لا ينفذ له مدد من حيث القابلية والعطاء والتجدّد والتلاؤم والتناغم والانسجام ..
هي لا تضيق ولا تتبرّم .. لا تتعصّب ولا تنغلق .. لا تصدّ عن الجديد, ولا تنصرف عن المستحدث!!
لقد غدت لغتنا الجميلة -اليوم- أداة شائعة في التعبير عن الحداثة والمعاصرة شعراً ونثراً, نصاً إبداعياً , وكلاماً موحياً عذباً, متألقاً محلقاً, يبلغ الذروة في الجمال والمنطق والحسّ الإنساني والنهوض الفني..
وربما يخبرك المغرضون والضالون والمدلسون أن هذه اللغة لا تصلح لتأدية العلوم العصرية, ولكنهم حين يبصرون ما يبصرون, ويطلعون على أسرارها, ويفهمون دقائقها, ويكشفون عن كنوزها يتراجعون؛ إذْ يدركون أنه لولا اللغة التي بقيت منيعة صامدة أمام الهجمات الوافدة, والادعاءات الثقافية المواربة, والانتماءات الغربية المشوهة, والتيارات المتباينة لما بقي للثقافة العربية وجود في الحاضر!
الفداء