أ. كه يلان مُحَمَد
يقولُ أدونيس في حواره المطول مع ابنته (نينار إسبر) الذي نشر في كتاب يحملُ عنوانَ «أحاديث مع والدي أدونيس» الصادر عن دار الساقي 2010 « لا أرى نفسي خارج اللغة العربية، إلى حدِ أنها تغار من كل لغة أخرى».
يصل افتتان الشاعر باللغة العربية بحيثُ تبلغهُ إحدى صديقاتها بعدما تستمع إليه وهو يقرأُ الشعرَ بأنَّه لم يَعدْ بحاجة إلى امرأة طالما يمارسُ الحُبَّ مع اللغة، وبذلك ليست اللغةُ مجرد بيت لأدونيس، بل هي فعل وجودي كما تُساهم بالنسبة لصاحب «تنبأ أيها الأعمى» في توسيع مديات الحضور، هل تنحسرُ هيمنة الشاعر وتتعثرُ علاقته مع الكلمات، إذا نطق بغير لغته وعبّر عن رؤيته لجملة من المعطيات الحياتية والوجودية خارج حقله اللغوي، الذي اتسع لمُغامرته الشعرية، هذا السؤال يكون أكثر إلحاحاً على ذهنك عندما تعترفُ نينار بأنها اختارت الفرنسية لمُحاورة والدها، كون هذه القناة اللغوية تتيحُ لها فُسحة أكبر من الحرية، كما أن الحوار لو اعتمدَ على اللغة العربية سيكون الشاعر متزعماً، كأنَّ نينار تحايلتْ على والدها حينْ أدارت دفة الحديث باللغة الفرنسية، وحاولت الحد من زعامته اللغوية. لا تكتفي نينار باستجواب والدها حول اللغة وسحرها المُتغلغل في كل نواحي الحياة، بل تتشعبُ محاورُ الكتاب وتطال مطرقة السؤال كل المحظورات.
حوار صريح
يدور الحديثُ بين الاثنين بصراحة وشفافية عن شتى الموضوعات، بدءاً بنظرة الشاعر لمرحلة الشباب والشيخوخة، مروراً بعلاقته مع الأسرة وما تركه رحيل والده المبكر من التأثير على شخصيته، والتحاقه بالمدرسة، بعدما ينشدُ شعراً احتفاءً بزيارة شكري القوتلي، وليس انتهاء بقراءة الشاعر لحركات ثورية في التاريخ الإسلامي، وعلاقة الدين بالسلطة وشعور الإنسان بأنّه مغترب داخل وطنه ولغته بنظر أدونيس، أن هذه الحالة تودي بالمرء إلى الجنون والموت، يُذكر بأنَّ الحوار بين الوالد وابنته في مُعظم الفقرات يتخذ شكل المُطارحات الفكرية، إذ يتداول زمام الحوار بين الطرفين ويسترسلُ الحديثُ طارحاً كل واحد منهما السؤال على الآخر، فضلاً عن ذلك أنَّ الأسئلة التي تتوارد في سياق هذا الكتاب تتسمُ بالجرأة والعمق، وتخرج من الطابع التبسيطي والوقوف على الموضوعات المُنَمَطة. ولا يفوتُ المُتابعُ ما تتصف به المحاورة من الذكاء، واقتحامها حقل التابوهات لاستطلاع ما يدور في خلد المقابل حولها، لذا يدركُ القارئ للوهلة الأولى خصوصية هذا الحوار بين الشاعر وابنته، وما يميزهُ عن كل اللقاءات التي أُجريت مع أدونيس الذي لا يستكينُ إلى اليقين، بقدر ما تَّهمه المساءلة عن التراث والحاضر، ومبدياً شكوكه العميقة بالأجوبة الجاهزة.
من هنا لا يُرهنُ نصوصه الشعرية ولا آراءه المستندة إلى قراءات شاملة وخبرة ومعرفة زاخرة بظاهرة الجمهور فهو في رده على سؤال ابنته عن حاجة الفنان إلى الجمهور يقولُ «إنَّ مفهوم الجمهور إنما هو أسطورة» لافتاً إلى ما أخذته هذه الكلمة اليوم من طابع تجاري.
أسئلة مُشاغبة
يتسعُ مدار الأسئلة لشتى الموضوعات بما فيها ما يتعلق بحياة أدونيس واختياره لهذا الاسم بدلاً من (علي) وما أضافه (أدونيس) للشاعر، وهل شخص أدونيس هو عين شخص علي الذي سبقه؟ إذ يؤكد الشاعر الغلبة لأدونيس، كما يشيرُ إلى عدم وجود التناقض بين الاسمين، كذلك هناك سؤال عن جاذبية أدونيس، هل أدرك هذا الجانب من شخصيته، حيثُ تُلح نينار بأنَّ من الصعب أن يكون المرءُ فاتناً وبهياً، وفوق ذلك شاعراً ومُفكراً، بينما يوضحُ أدونيس بأن هذا الأمر لم يكن شغله الشاغل، هنا يتطرق الشاعرُ إلى ظروف حياته وصعوباته المعيشية، ما فرض عليه أن يكون منهمكاً لتدبير شؤون بقائه، كما يشرحُ صاحب «تاريخ يتمزق في جسد امرأة» بأنَّ جواب مشكلاته لا يكمنُ في ميدان الحب، أو في صلات العشق، ولا يوجدُ ما يعبرُ عن وجوده، كما تؤدي الكتابة والخلق هذه الوظيفة في حياته، ومن ثُمَّ يُجيبُ أدونيس عن سؤال حول علاقته بجسده، ويكشفُ بأن حبه لجسده جاء متأخراً، وأنَّ علاقته الحرة مع جسده لم توصله أبداً إلى مزالق ابتذال الحرية، ويتطرق أدونيس إلى الطبيعة الحيوانية في الجسد، غير أن ذلك لا يعيقُ من أن يسموَ ويعانق الحرية، ويقرُ بأن الحياة تخلو من المعنى من دون النساء. وينتقلُ الحديثُ أيضاً إلى الأدب الإباحي في الثقافة العربية، ويكون السؤالُ لماذا ظل موضوع الجسد من المحرمات مع أن مظان الكتب التراثية مكتظة بأشعار الهوى والعشق، هل هذا يعني نحن مستغرقون في الاستيهام ، ونفضل الإقامة في الألفاظ. هل يعزى هذا الأمر إلى هيمنة الثقافة الشفاهية؟
تنبؤات بالانفجار
يُشخصُ أدونيس مشكلات الثورة في واقعنا ويعتقدُ بأن ما شهدته مجتمعاتنا من الحراك الثوري، يفتقرُ إلى آفاق الثورات الشاملة، إذ ينحصرُ معظمُ الثورات بمطالب سياسية في مواجهة السلطة القائمة، أو في مواجهة هيمنة خارجية، ويرى بأن الوصول إلى السلطة باسم الثورة، يمكن أن يُفَرِخَ من الفساد أكثر مما في حقبة السلطات المخلوعة، ويتوقف عند ما يحف المجتمعات العربية من المخاطر، وكيف تحولت إلى تابع للغرب وتعيشُ على إنتاج الآخرين، كل هذه العوامل تنذرُ بحدوث الانفجار، يشارُ إلى أن توقع أدونيس جاء قبل اندلاع الانتفاضات الجماهيرية، وبرأي أدونيس أن ما يغذي السيرورة هو الأفكار، ويجبُ أن لا يتوقف الحديثُ عن الفكر بمجرد إحراز بعض التقدم، لأن من الجائز أن يتلاشى هذا التقدم أو يتراجع. كما لا يصحُ تجاهل دور المؤسسة في التحولات المجتمعية، إذ بدون تغيير المؤسسات ستكون أي محاولة للخروج من حالة الركود بدون جدوى.
الغضبُ على الكُتب
من الطبيعى أن لا يكون هناك شيءُ يستاثرُ باهتمام أدونيس مثل الكُتب، حيثُ تذكرُ نينار بأن الكتاب يرافق والدها باستمرار ويقرب لك صورة أدونيس جالسا على الكرسي، يطالع الكُتب أو يناقش مع والدتها موضوعاً فكرياً، كما أن الكتب غطت جدران بيتهم البيروتي، وحين لا يكون الوالد موجوداً في البيت تذكرها الكتب بغيابه ولا تخفي نينار مقتها للكتب في سن مبكرة، حيثُ وكانت تشعر بالخجل أمام رفيقاتها وعندما كانت تدعو زميلاتها إلى البيت، تتمنى أن تختفي جميع الكتب، لكن تتغير هذه العلاقة من العداء إلى الصداقة بين نينار وكتب والدها، إذ تعيشُ تجربة جديدة مع عالم الكتب أثناء الحرب الأهلية في لبنان، كلما تشتدُ المعارك تلتجئ الأسرة إلى الرواق محتمين برفوف الكتب الضخمة الصاعدة من الأرض حتى السقف، في هذا المناخ رافقت ذكريات بابلو نيرودا في «أعترف بأننى قد عشتُ» كما اطلعت على نيتشة «ماوراء الخير والشر» وتعرفت على مكسيم رودنسون ورولان بارت وحنة أرندت ولوتريامون.
ويتنهى الحديثُ بإمكانية رؤية أشياء جميلة في أشياء مهولة، عندما يأتي الكلام على انفجارات 11 سبتمبر/أيلول، ينقسم الكتاب إلى عشرة فصول وعنونت نينار كل فصل باسم أغنية، ومع كل فصل تجوس في جانب من عالم أدونيس وتتعرف على هموهه وانشغالاته الفكرية.
القدس العربي