|
|
|
|
ازدهار علوم اللغة العربية في بلاط سيف الدولة الحمداني
عادل بكرو
يحلو لبعض المؤرخين والمستشرقين تصوير سيف الدولة الحمداني على أنه فارس ميدان وأمير عسكر وصاحب حروب فحسب متناسين الجانب الآخر من شخصية سيف الدولة، وهو الجانب العلمي الرائع، والحس الأدبي الرفيع الذي كان يتمتع به في حله وترحاله،
ومن يتصفح كتب الأدب والتاريخ يجد أن سيف الدولة رجل علم ولغة وأدب وإبداع قبل أن يكون رجل سيف وأمير حرب، ولا غرابة من أن يتحول بلاطه الملكي إلى منتديات أدبية وعلمية تدار فيها المناظرات النقدية وتقام الخصومات الفكرية التي يتسابق إليها خيرة علماء العصر، ودرة أعلام الفكر حينذاك، حتى غدا قصر سيف الدولة ـ بحق ـ محجاً للشعراء ومقصداً للنقاد والعلماء والفلاسفة من كل حدب وصوب، فقال عنه الثعالبي «لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ العلم ونجوم الدهر» وكان الأمير سيف الدولة لا يتوانى البتة عن بذل الأعطيات السخية على المجيدين من رواده العلماء لاسيما المبرزين منهم حتى إنه خصص نقوداً مميزة جعلها للعلماء أطلق عليها اسم «دنانير الصلة» وكان الواحد منها يعادل عشرة أضعاف الدينار العادي، ما انعكس إيجاباً على الحركة الثقافية الحمدانية لاسيما علوم اللغة العربية التي حظيت بعناية فائقة من قبل سيف الدولة لما عرف عنه من ميل للآداب وشغف بالتذوق الأدبي، الأمر الذي استقطب المثقفين من أبناء الزمان لعاصمته حلب فكان يجتمع فيها تيجان علماء اللغة وأساطينها الفطاحل، وكان من ألمع من ظهر على مسرح الحياة اللغوية في عهد الحمدانيين الحسين بن خالويه، وأبو الفتح ابن جني، وأبو علي الفارسي، وأبو بكر الخوارزمي، وأبو الطيب اللغوي، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني، وكان من ألمع هؤلاء وأقربهم إلى قلب سيف الدولة وأفراد أسرته أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه الذي ولد في همذان ثم تجول في بلاد الخلافة يطلب العلم إلى أن استقر به المقام في حلب فكون فيها مدرسة لغوية، وكانت الرحلة إليه من الآفاق، إذ كان عالماً مجلاً بكل أقسام العربية أدباً ولغة وأخباراً، وقد روي أن رجلاً جاءه يوماً فقال له: أريد أن أتعلم من العربية ما أقوم به لساني، فقال له ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو فما تعلمت ما أقوم به لساني، ومن طريف ما يذكر أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرة ابن خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟ قال أنا أعرف اسمين لا أقولهما إلا بألف درهم، وهما صحراء وصحارى وعذراء وعذارى، والحقيقة أن مؤلفات ثمينة كثيرة قد خلفها ابن خالويه للمكتبة اللغوية ألف جلها في مدينة حلب منها «أسماء الأسد، إعراب ثلاثين سورة، كتاب الاشتقاق، كتاب الألفات، كتاب البديع في القراءات، كتاب الجمل في النحو، الأضداد، الإبدال، المثنى.. الخ.
وفي بلاط الحمدانيين بزغ نجم فقيه العربية الأول وإمام النحاة العلامة عثمان بن جني أبو الفتح المولود في الموصل لأب مملوك، وقد تنقل في بلاد كثيرة بدافع العلم والأدب إلى أن وجد ضالته في حلب فكان يحضر منتديات الأدب واللغة محاوراً وناقداً فذاً يشهد له بذلك أعلام العربية في عصره، حتى أن المتنبي كان يقول عنه: ابن جني أعرف بشعري مني، وكثيراً ماكان المتنبي يرشد سائليه عن معنى أبياته إلى صديقه العلامة ابن جني، ومما يروى أن شخصاً سأل أبا الطيب المتنبي عن قوله: باد هواك صبرت أم لم تصبرا فقال له: كيف أثبت الألف في «تصبرا» مع وجود لم الجازمة، وكان من حق المتنبي أن يقول: لم تصبر، فقال المتنبي: لو كان أبو الفتح هنا لأجابك، هذه الألف هي بدل من نون التوكيد الخفيفة لأنها في الأصل «لم تصبرن»، والمعروف أن نون التوكيد الخفيفة تبدل ألفاً إذا وقف الإنسان عليها كقول الأعشى: ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا والأصل «فاعبدن»، فلما وقف أتى بالألف بدلاً، وكان المتنبي يعرف تماماً أن عالماً كابن جني هو الكفيل بتأويل نصوصه وتعليل ماأشكل منها في اللغة والإعراب ولذلك كان يقول عنه: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس»، وقد بلغ من مكانة ابن جني اللغوية واعتزازه بعلمه واحترام الناس لقدره أنه كان يمنح إجازات علمية للمتأدبين يسمح من خلالها بتدريس كتبه ومصنفاته بعد اطمئنانه إلى مقدرتهم وكفايتهم، أما عن علاقة ابن جني بأبي علي الفارسي فتعود إلى عهد الفتوة والشباب حيث كان ابن جني يدرس اللغة والنحو في أحد مساجد الموصل ذات يوم فدخل أبو علي الفارسي في أثناء تطوافه بالبلاد المسجد ذاته فصادف أن وجد أبا الفتح يقرأ أحد بحوث النحو وهو قلب الواو ألفاً في نحو «قام وقال» فاعترض عليه أبو علي الفارسي فوجده مقصراً في بحثه فقال له قولته الشهيرة «زببت قبل أن تحصرم» وكان ابن جني حينذاك لا يعرف من ينقده، ويتحدث إليه، وحينما سأل عنه وعرف من هو لزمه إلى أن مات، وخلفه بعد موته في إكمال المسيرة النحوية فكان يدرس النحو واللغة من بعده، وقد تركت تلك الحادثة أثرها في نفس ابن جني الذي اتجه للاهتمام بعلم الصرف والتبحر في مسائله والتدقيق فيه، ذلك أن السبب الذي دعاه إلى مصاحبة أبي علي الفارسي ومفارقته لأهله إنما هو مسألة تصريفية، وكان لابن جني أخبار كثيرة مع المتنبي فقد كانا صديقين حميمين، والواقع أن شرح ابن جني لديوان المتنبي يعتبر من أقدم الشروح لديوانه وأفضلها لأن صاحبها كان على صلة مباشرة بأبي الطيب المتنبي، وقد ترك ابن جني مؤلفات كثيرة في اللغة والنحو والصرف منها: «محاسن العربية، شرح الفصيح، والمبهج في أسماء رجال الحماسة، والخصائص، والتصريف الملوكي، واللمع في النحو، والتنبيه، والمذكر والمؤنث، والتمام في تفسير أشعار هذيل، والمقتضب من كلام العرب، والتعاقب، والمهذب، والتبصرة، والتذكرة الأصفهانية.. الخ».
أما شيخه أبو علي الفارسي فقدكان أحد أئمة علوم العربية إذ أخذ عن الزجاج وابن السراج وغيرهما من علماء العصر الأفذاذ، وكان ابن جني يروي عن أستاذه الفارسي قوله: أخطئ في مئة مسألة لغوية، ولا أخطئ في واحدة قياسية، وكان أبو علي يسأل عن إشكاليات النحو ومغاليق اللغة فيجيب عن ذلك ويصنف حول تلك المسائل كتباً نسبها إلى مدن جال فيها بغية البحث والعلم فصنف «المسائل الحلبية، والمسائل الشيرازية، والمسائل الكرمانية، والمسائل العسكرية .. الخ». وقد علت منزلة أبي علي الفارسي بين النحاة واللغويين حتى قال أحدهم عنه «هو فوق المبرد وأعلم» ومن تصانيفه الكثيرة نذكر «جواهر النحو، الحجة، تعاليق سيبويه، العوامل في النحو، وغيرها كثير من الكتب اللغوية القيمة».
أما أبو بكر الخوارزمي فهو محمد بن العباس المولود بخوارزم سنة 323هـ، أقام في صباه في بلاد فارس ثم رحل إلى دمشق ثم استوطن في حلب ردحاً طويلاً من الزمن، وكان أحد أئمة اللغة والأدب وهو صاحب الرسائل المعروفة برسائل الخوارزمي كما كان له ديوان شعر، علاوة على ضلوعه في كل فنون العربية وعلومها، وكان لا ينكر أثر حلب في نفسه وتكوينه المعرفي الواسع فيروى عنه أنه كان يقول: «ما فتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف لساني، وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائق الشامية واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نفسي». توفي الخوارزمي سنة 383 تاركاً الكثير من التصانيف اللغوية والرسائل النحوية القيمة.
ومن علماء اللغة الذين طاب لهم المقام بعاصمة الحمدانيين وتألقوا فيها علماً وأدباً و تصنيفاً أبو الطيب اللغوي عبد الواحد بن علي العسكري المولود ببلدة عسكر مكرم الفارسية ثم كانت رحلته إلى بغداد التي تتلمذ أبو الطيب على نخبة العلماء فيها إلى أن تربع على عرش الشهرة فيمم وجهه قاصداً حلب ليجد عند أميرها سيف الدولة ابن بلده ابن خالويه الذي كان قوياً في البلاط الحمداني ما أثار حفيظة أبي الطيب وأذكى روح المنافسة العلمية بينهما، وكان أبو الطيب يثبت جدارته العلمية في أكثر الأحيان، ومما يروى في هذا الصدد أن أبا علي الصقلي قال: كنت في مجلس ابن خالويه إذ وردت عليه من سيف الدولة مسائل تتعلق باللغة فاضطرب لها ودخل خزانته وأخرج كتب اللغة وفرقها على من كان عنده من أصحابه يفتشونها ليبحث عنها فتركته وذهبت الى أبي الطيب اللغوي وهو جالس وقد وردت عليه تلك المسائل بعينها وبيده قلم فأجاب به عنها في الحال، ومما يؤسف له أن أغلب مؤلفات أبي الطيب قد اندثرت وضاعت على يد الغزاة إذ قتل أبو الطيب اللغوي حين دخل الروم حلب.
ومن علماء النحو واللغة الذين تألقت نجومهم في حلب أيام سيف الدولة الحمداني أبو الحسن الجرجاني علي بن عبد العزيز المولود بجرجان والذي كان من شيوخ النحو وأعلام العربية، علاوة على كونه شاعراً مرهفاً، وقد أحسن الثعالبي إذ وصفه: «إنه فرد الزمان، ونادرة الفلك، وحدقة العلم، وقبة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، مجمع خط ابن مقلة، الى نثر الجاحظ ونظم البحتري»، وفي الواقع فإن أبا الحسن الجرجاني كان حريصاً أشد الحرص على حضور المنتديات الأدبية والمناظرات الفكرية التي كانت تقام في رحاب سيف الدولة إذ كانت تذكي في نفس الجرجاني روح العلم والتصنيف فألف الكثير من الكتب ذات القيمة الفكرية العالية منها: «الوساطة بين المتنبي وخصومه، تفسير القرآن، تهذيب التاريخ، وديوان شعر مميز جاء في احدى قصائده قوله:
ماتطعمت لذة العيش حتى صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء عندي أعز من العلم فما أبغي سواه أنيسا
إنما الذل في مخالفة النا س فدعهم وعش عزيزاً رئيسا
وخلاصة القول فإن حلب سيف الدولة أشبه ماتكون بمجمع لغوي كبير يستقطب خيرة علماء اللغة والنحو الذين يجدون ضالتهم العلمية في بلاط الحمدانيين، إذ إن روح المنافسة التي أذكتها المناظرات الفكرية والخصومات الأدبية التي كانت تقام في منتديات سيف الدولة الحمداني كان لها أرقى الآثار وأفضل المنعكسات على مسيرة التأليف اللغوي الذي كان ميزة العقل العربي المتألق في القرن الرابع والذي قدم للحضارة الإنسانية من العلوم والآداب ماتفخر به بحق، وواقع الحال فإن أمة من الأمم لم تهتم بلغتها كما اهتم العرب بلغتهم بحثاً وتوثيقاً، وتأليفاً وتدقيقاً، وأرشفة وتحقيقاً، على مرّ تاريخهم الطويل منطلقين في مساعيهم اللغوية من شعورهم الكبير بقداسة هذه اللغة وعظمتها كونها لغة آخر الرسالات السماوية، لغة القرآن الكريم الذي نزل على النبي العربي صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، فكان مسعاهم في الحفاظ عليها واجباً دينياً وقومياً وإنسانياً.
ـ إجازة في الآداب قسم اللغة العربية /جامعة حلب/.
ـ شهادة دبلوم تأهيل تربوي /جامعة البعث/.
ـ شهادة في التأليف المسرحي.
ـ عضو الجمعية السورية لتاريخ العلوم عند العرب.
ـ مدرس لمادة اللغة العربية في ثانويات حلب.
المصادر والمراجع
1 ـ الأعلام: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين ط10 ـ 1992م بيروت.
2 ـ بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: جلال الدين السيوطي، ط1،سنة 1326هـ ـ مطبعة السعادة مصر.
3 ـ فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين: مصطفى الشكعة، مكتبة الأنجلو المصرية، مصر.
4 ـ نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، التنوخي، ط0 الهند 1921م.
5 ـ نزهة الألباء في طبقات الأدباء، ابن الأنباري، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، ط، مصر.
تشرين
|
|
|
|
|
|