|
|

نفسي.. واللغة العربية
د. محمد مبارك
كنت قد تأثرت كثيرًا بأسلوب الكتابة في المقامات العربية، كتلك التي خطها بديع الزمان الهمذاني، أو التي أبدعها محمد الحريري البصري، فعُرفت الأولى بمقامات بديع الزمان، والثانية بمقامات الحريري. ويُعجبني فيما كُتب في المقامات أنها بالنسبة إلى القارئ في زمننا المعاصر، وخصوصًا لمن يحب الأدب العربي، تشكل تحديًا كبيرًا واختبارًا دقيقًا في فهم اللغة العربية الفصيحة، بمفرداتها الثرية والمتنوعة التي لا تخطر ببال من لا يقرأ تاريخ اللغة ويعيش معها قصصًا وحكايا، كما يعجبني فيها قدرة الأديبين المتمكنين من سرد القصص والأحداث باختلاق شخصيات عربية تتكرر في كل قصة، مع اختلاف الأحداث، كعيسى ابن هشام، وأبو الفتح الإسكندري.
كتب جمال الدين الجوزي كتابًا أسماه الحمقى والمغفلين، ووضع فيه أكثر النوادر التي رواها العرب طرافة عن المغفلين والحمقى والظرفاء، مما قرأه وسمعه وشاهده، وقلة هم الذين قرأوا الكتاب رغم ظرافته وخفة حروفه. وكنت أحتفظ بنسخة قديمة منه، ومع إهمال الشباب اختفت النسخة ورحت أبحث عنها من دون فائدة. وذات يوم في معرض من معارض الكتب التي استضافتها البحرين؛ ذهبت أبحث عن الكتاب في المكتبات اللبنانية، فلم أجده، ثم انتقلت إلى المصرية، فلم أجده، ووجدته أخيرًا لدى مكتبة عراقية، مطمورًا تحت عشرات الكتب، ولم أكن لأعثر عليه لولا أنني جلست متربعًا على الأرض أبحث مع صاحب المكتبة، وكان شيخًا كبيرًا في السن. وأذكر أنني ليلتها قرأت الكتاب كاملاً وأنا أقهقه من الضحك، ليس لطرافة الأحداث في الكتاب، بل أيضًا لخفة ونكتة اللغة العربية في توصيفها للأحداث.
وأتذوق من الشعر ما يُكتب باللغة العربية أكثر من النبط، وإن كان النبط رائعًا حينما يكتبه المتمرسون الذين يبرعون في الشعر العربي الفصيح، تمامًا كبراعتهم في النبط، لكنني أجدني منحازًا إلى الكلمات العربية الأصيلة، وتطرب أذني لها كما يطرب الجمهور المتذوق للفن سماع صوت العود.
ورغم أنني أترجم الكلمات ببراعة، أو أزعم ذلك على الأقل، من اللغة العربية إلى الإنجليزية والعكس، وقد ترجمت وثائق لكتب تاريخية طُبعت ونُشرت، ورغم أنني قد درست الأدب الإنجليزي بشكل معمق منذ شيكسبير القرن الخامس عشر وحتى توماس إليوت القرن العشرين، فإنني أظل منحازًا إلى اللغة العربية في قدرتها على إيصال المعنى بدقة متناهية، وعلى قدرة مفرداتها في استيعاب أكبر قدر من المعاني.
أخبار الخليج
|
|
|
|
|