د. هادي حسن حمودي
تطور اللغة بتطور الإنسان لا بصخب المشاريع المعطلة
(1)
اللغة لا تصنع حضارة.. الإنسان هو الذي يصنع الحضارة ويعبر عنها بلغته. فإذا كانت لغته شحيحة الألفاظ وغير قابلة للتطور، فكيف يستطيع أن يعبر بها عما يصل إليه العلم؟ بل كيف يصل إلى شيء جديد، إذا لم تكن له لغة مسعفة تساعده على التفكر والتفكير، والوصول إلى نتائج ذلك التفكر وهذا التفكير؟ فاللغة والفكر صنوان لا يفترقان، لا تفكير بلا لغة، فإن كانت اللغة ضحلة فالتفكير أكثر ضحالة، وهذا ما أنتجته لنا اللهجات العامية في عموم العالم العربي، خاصة البيئات التي بدأت تبتعد عن السمو اللغوي، منحدرة إلى حضيض التسطيح والضحالة.
فيلم «الرسالة» الذي أخرجه المرحوم العقاد، أُعجب به كل مَن شاهده، ولقد كان للغة الفيلم الدور الأكبر في حيازة ذلك الإعجاب، (عرض في معظم البلدان العربية، ثم أعادته محطات البث المتلفز محليا ودوليا، مرارا وتكرارا، باستثناء محطات دولة واحدة لم تعرضه أبدا).
لغة الفيلم فصيحة مأنوسة، أدت دورها، تماما كما أدت اللغة الفصيحة دورها في انتزاع إعجاب الناس بالشعر الراقي، وما أدي منه على شكل تواشيح وأغنيات. وحتى عشاق العاميات من متعلمين وأنصاف متعلمين، كانوا يرددون، وما زالوا، أبياتا مغناة من تلك الأشعار والقصائد. ولا أظن أحدا ينكر إعجابه بما انتشر من أغان كتبها نزار قباني، وإبراهيم ناجي، مما أدته أم كلثوم، ونجاة الصغيرة، وغناه عبد الحليم حافظ، وكاظم الساهر. ولا أحد يُنكر إعجابه بلغة الروايات والقصص التي كتبت باللغة الفصيحة، وحتى لغة التراجمة الذين ظهروا في لبنان والجزائر والمغرب وغيرها.
وهل من لا يستولي عليه الإعجاب بلغة الجواهري والشابي وشعراء المهجر، وغيرهم؟
إضافة إلى الدراسات العلمية الدقيقة والعلوم الإنسانية التي نُشرت باللغة الفصحى المأنوسة التي يفهمها الناس. تلك لغة الفن، وهذه لغة الشعر والأدب، والثالثة لغة العلم. وكلها أديت باللغة الفصحى، ولم تكن منفصلة عن وعي سائر الناس ومداركهم، أيا كان حظهم من التعلم والتثقف. فلماذا الهبوط إلى الاعوجاج اللغوي؟ ما الذي يضير كاتب الحوار ومخرج القصة سينمائيا أو تلفزيا، من استعمال اللغة الفنية المفصَّحة في الحوار؟
أعتقد الجواب يتجلى في أنّ الارتقاء من الارتخاء اللغوي اللهجي إلى القوة اللغوية الفصحى، يحتاج إلى إرادة وقوة في الشخصية، سُبقت بنظام تعليم ناجح، يؤدَّى على أيدي معلمين يتمتعون بتلك الإرادة والقوة، ومناهج ناجحة مفضية إلى التطور والتطوير الجديرين بصفتيهما. حتى تصبح اللغة الجميلة طبيعة لدى المرء فيسهل عليه العوم في غمراتها.
ولقد جنت العامية الممسوخة على لغة بعض الكاتبين بالفصحى، وتجرأت على غزو معاقل ألفاظهم. سأضرب هنا مثلا من رواية «أمريكانلي» وذات العنوان الجانبي «أمري كان لي» لصنع الله إبراهيم (وإنما أستشهد بها لأني أكملت قراءتها اليوم).
والحديث هنا ليس عن موضوع الرواية وفنيتها وقيمتها الأدبية، وإنما عن غزو العامية لألفاظ الكاتب الذي يكتب بالفصحى المأنوسة السلسة. وسأكتفي بأمثلة قليلة جدا، وتعال معي:
ص 191: سألتها عن سر ملامحها الشرق آسيوية، فقالت: إن أبيها ياباني ولد في معسكر اعتقال في أمريكا.
من الواضح أن المؤلف لن يكون قد خسر شيئا لو قال: (إن أباها).
يذكرني هذا بقصيدة متشاعر ألقاها في مؤتمر أدبي، قال: «رأيت عيناها مثل حشائش الحدائق». وحين قال له الناقد المشارك في الندوة (إن عينيها) أجابه: هذه أحلى.
ص 159: «لكن، بص معي». ولا أدري ماذا كان سيضيره لو قال: لكن انظر معي.. أو تأمل معي.. الخ.
ص 123: «كان طويل القامة، بوجه به آثار جدري وعينان ذرقاوان) بالذال لا بالزاي. وسواء كانت من الكاتب وهو ما أستبعده، أم من المنضّد وهو ما أرجحه فالنتيجة واحدة، غزو الطحالب اللهجية لسفر الفصاحة.
أما تأنيث (الرأس) كما في (له رأس كبيرة) وتأنيث الأنف: (ووجهها المستطيل بالوجنتين البارزتين والأنف المستقيمة) (ص 282). فقد تكررت وكأنها هي الأصل اللغوي لهاتين الكلمتين.
وغير هذه الرواية الكثير.
(2)
حين يستنفر الكاتب إرادته وقوة نفسه، يرتقي إلى اللغة الفصحى، وحين يرتخي تتسلق الطحالب إلى معجمه اللغوي. وهذا يحدث عادة في البيئة التي أصبحت العامية بها هي المسيطرة في التعليم والفن والتعامل اليومي وكتابات الصحف حتى صارت بعضها بالعامية لا بلغة الأدب الفصيحة السلسة. وإذا كان للبيت تأثيره، وللتعليم تأثيره، فإن أخطر وسائل التنمية اللغوية الإعلام، من مسلسلات وروايات وتمثيليات مرئية أو مسموعة. وكذلك في المقابلات. فاللغة روح الإعلام ووسائله، وروح البحث الإعلامي وأخباره وتحقيقاته وسائر رسائله، فهي مظهر الإعلام ومادّته ومضمونه. وبغير اللغة لا يكون هناك مقال ولا كتاب ولا بحث ولا حوار. فاللغة والحياة الإنسانية عموما توأمان لا يفترقان. ومهما كان كلامك رصينا في المقابلة والحوار، ونيّتك نزيهة مخلصة، وهدفك من السموّ في المكان الأعلى، فإنّ كلّ ذلك لا يساوي شيئا لدى المتلقّين لـمُرسلتك الإعلاميّة، في المجتمعات الحيّة، إذا كانت لغتك ضعيفة ركيكة مليئة بالأخطاء الكتابيّة (الإملائية) واللغويّة والنحويّة، لأنّها ستكشف ضحالتك (الثقافية) لهم. وربما تقول: وما نفع النحو واللغة والرسم الصحيح إذا كان جمهور المتلقّين، قراءً ومستمعين ومشاهدين، لا يعرفون القواعد اللغويّة، ولا يفرّقون بين ما حقّه الرفع وما حقّه النّصب، بل لا يفرقون بين الناقة والجمل؟ وهذا سؤال جدير بالانتباه، لأنه يناقض إرادة التقدم، من حيث:
أ- إنّ مهمّات وسائل الإعلام الجدير بصفته رفع المستوى العلمي والتعليمي للمتلقّين، ومن ذلك تقريب لغتهم إليهم، خاصّة أن البحوث العلمية اللغوية أثبتت جمال هذه اللغة وطواعيتها وقدرتها على التعبير عن العلوم والفنون والآداب، إذا أخذ أهلُها أنفسَهم بالجد والاجتهاد والسعي لإثبات شخصيّتهم الحضاريّة في هذا العصر، تلك الشخصيّة التي تكوّن اللغةُ صفتها الأولى وركنها الأساس، ولا بأس بعد ذلك بتعلّم اللغات الأخرى، بل هو أمر واجب وضروري لا في هذا العصر فحسب، بل في جميع العصور والأزمان.
ب- لقد ظهر منذ مطلع القرن الماضي شعراء وأدباء عديدون استعملوا اللغة الجميلة المأنوسة فأنتجوا أدبا ثرّا وثريّا بالمعاني الدقيقة التي تعبّر عنها الألفاظ بلا بواقٍ، وهؤلاء ليسوا جيلا انقضى وانتهى، فما زال لدينا كمّ جيّد من الكتّاب والشعراء، وهم سيتزايدون، حتما، بتطوّر وسائل التعليم والإعلام.
ج- ولا ننسى أننا نكتب لقومنا، أي للعرب، وكانت الكلمة معجزة النبي الأكرم، عليه السلام، متمثلة في القرآن الكريم، الذي ما زال يسحر الألباب بلغته، مفردات وتراكيب أسلوب.
د- إنّك لا تكتب ليومك فقط، بل أنت تكتب للتاريخ. وبتطوّر التعليم، سيظهر جيل يعرف هذه اللغة وقواعدها وقوانينها أفضل من هؤلاء الذين يشير إليهم الاعتراض. وذلك الجيل سيحكم على كتابتك بناء على قربها من الصواب أو بعدها عنه، كما نقوّم نحن الآن، ما يسمَّى بأدب فترة الانحطاط، أو الفترة المظلمة.
أمّا اللغة التي ندعو إليها فيجب أن تمر بمراحل:
الأولى: مرحلة تفصيح العاميّة. فبعض العاميات العربية لا تبتعد عن الفصحى كثيرا، باستثناء أنها لا تُظهر علامات الإعراب، خذ مثالا: تقول لصاحبك: كيف الحال (بسكون اللام) يجيبك: الحمد لله (بسكون الهاء) بخير (بسكون الراء). هذه هي التي علينا أن نبدا بها.
الثانية: ثم نرتقي بالذائقة اللغوية إلى اللغة المعهودة في الصحف الرصينة. ولن نطلب أكثر من ذلك إلا لمن شاء التخصص.
وإذا كان بعض المعاصرين قد انتهك اللغة وأسَفّ في استعمالاتها بحيث فقدت بعض مفرداتها تألّقها وجمالها، فإنّ من مهمّات الإعلام المرتجَى والمؤمَّل أن يعيد لتلك المفردات نكهتها وتألّقها، كما عليه أن يبتكر في اللغة ويجدّد في ألفاظها وأساليبها. ولا مفرّ لكاتب النّصّ الإعلامي، وأي كاتب آخر من الاطّلاع الواسع على اللغة وأن يتثقّف بها، وأن يميز الصواب من الخطأ.
(3)
ولا بدّ لنا من الاعتراف أن الكتّاب الإعلاميين ليسوا سواءً أمام اللغة، فمنهم مَن يضيق بالحد الأدنى من السلامة اللغوية، لا لعيب في تلك السلامة، ولكن لجهل بها، فهم لم يتعرّفوا اللغة بشكل كاف، أو لم ترتفع بهم هِمَمُهُم إلى آفاق إبداعها وجمالها، وهذا نقص بلا شك. ومنهم من أوتي حظا في امتلاك ناصية اللغة، وهذا كمال بلا ريب، فلا يُطلب من الكاتب الإعلامي أكثر من ذلك، لفظة دالّة على المعنَى، وسلامة في تركيب الجملة، على أن لا تتحوّل اللغة إلى هدف في حدّ ذاتها، إذ إنّ القارئ المعاصر لا يتحمّل (استعراض العضلات اللغويّة) بل يكتفي باللغة الجميلة، وأول ملامح الجمال اللغوي أن تكون اللغة متوافقة مع الذوق السليم وأن تكون مفهومة، ولو عن طريق السياق. وها نحن نرى العرب بمختلف مستوياتهم الثقافيّة يفهمون (مُجْمَلَ) آيات القرآن حتى إذا لم يعرفوا معنَى بعض ألفاظه، ويفهمون نشرات الأخبار المذاعة والمتلفزة بلا حاجة إلى (ترجمتها) إلى اللهجة المحلية.
وعلى الرغم من هذا فإننا لا نجد مناصا من أن نقرر أنّ من الظلم البيّن أن يَضْعُف التعليم، في بعض البيئات العربيّة، وأن تنساق أغلب وسائل الإعلام العربيّة وراء الميوعة والاستسهال والتخدير، لأنّ من شأن ذلك أن يُوْدِي باللغة إلى مهاوٍ سبق أن بدأت تتخلّص منها منذ مطلع القرن المنصرم، كما يؤدي إلى ضرر فادح بمستقبل البلدان العربيّة في مختلف الميادين. فالتسطيح، دائما، يخدر العقول ويهيئها لتقبّل كل ما يُلقى فيها من سموم.
(4)
ولا تحسب أن الدعوة إلى العاميّة جديدة حديثة ودالّة على التطور، بالعكس تماما، فقد كانت العاميّات العربية منتشرة في فترات الانحطاط، وكانت الأمية متفشية بحيث كانت أعداد القادرين على القراءة منذ القرن الحادي عشر الميلادي وإلى أواخر القرن التاسع عشر لا تتجاوز 2٪ من مجموع السكان. وقد أصبحت الآن، في بعض الدول العربية تتجاوز الـ80٪.
إنّ دول العالم قاطبة تستشعر الغَيرة على لغتها، وتعاقب من يسيء إليها، فالإساءة ليست صورة من صور الحريّة. فرنسا، مثلا، تفرض غرامات ماليّة على كلّ صحيفة لا تراعي سلامة اللغة الفرنسيّة. وفي الدنمارك حركة علميّة نشيطة تستبعد تأثير اللغات الأخرى، فترى القوم هناك وفي السويد وألمانيا وغيرها يبتكرون برامج للحاسب الآلي بلغاتهم، لئلا تنسحق تلك اللغات تحت سنابك أيّ لغة أخرى. وهذا ما يجب أن يحدث في العالم العربي.
ومن مظاهر الأميّة الإعلامية والثقافية والتعليمية أنّ أساتذةً للّغة العربية في المدارس والجامعات (العربية!) ومذيعين ومقدّمي برامج ومصدري فتاوى شرعية، وكتّابا وأدباء وشعراء ومفسري قرآن، يتروّجون في الفضائيات والأرضيات (العربية!) إذاعة وتلفزة، لا يحسنون استعمال هذه اللغة في تقديم مادّتهم، فإذا بهم يقدّمونها بلهجتهم المحلية القاصــــرة، وليـــس ذلك نقصا في اللغة، ولكنّه نقص في تكوّنهم ودراستهم.
وإذا كان ثمة عذر لبعضهم أن يجهلوا لغتهم نتيجة مناهـــج دراسية فاشــلة، فليس ثمة عذر لأساتذة جامعيـــين ومدرســين في مدارس وزارات التربية والتعليم العالي متخصصين باللغة العربية وآدابها لا يحسنون إقامة جملتين عربيتين سليمتين.
(5)
وقد تأتي من ناحية أخرى فتزيد في اعتراضك ذاك على ضرورة مراعاة النحو واللغة ورسم الحروف في كتابة النّصوص، فتقول (كما كتب لي أحدهم مرة!): لسنا من طلاب اللغة، ولا علاقة لعملنا بقواعد النحويين واللغويين، ما ضرورة اللغة؟ وما العلاقة بين الكتابة الإعلاميّة، وهي كتابة سهلة تقترب من العاميّة بل هي العامية ذاتها، وقد توجّه إلى أناس لا يعرفون من النحو شيئا؟ ما علاقتها وما علاقة المتلقّين بكتب الخليل ومؤلفات الجاحظ؟ هذا مع كلّ ما في اللغة من صعوبة حفظ وتشعّب قواعد وتعدّد آراء واختلافات ما بين البصريين والكوفيين ومَن تلاهم، فما يراه هذا مغلوطا يراه ذاك صحيحا؟ فلماذا كلّ هذا العناء؟ أليس من الأجدى أن تُهمَل قواعد اللغة تقرّبا من مستوى القارئ الذي يجهلها؟!
هذه أسئلة تدلّ، في أفضل الاحتمالات، على جهل مركّب، جهل باللغة، وجهل بمهمّة الكاتب عموما، فكيف إذا كان كاتبا إعلاميّا، بل وكيف يكون الحال إذا كنا نريد من الإعلام أن يساعد في التخلص من التخلف الحضاري وفي طليعته التخلف اللغوي؟
ولو علم المعترض على الاهتمام بلغة النّصّ الإعلاميّ، أنّ لكلّ مقالٍ، أو بحث إعلامي، لغةً خاصّة به، ولها مواصفات خاصّة بها، لما جرؤ على السخرية، ولفكّر مليّا قبل أن يطلع على الناس بتطبيق رؤيته في مقال أو بحث، ولما اضطرّ إلى مواجهة الناس مواجهة هو المنهزم فيها حين يحاسبونه على أغلاطه وتخبّطاته، ولأدرك أن ليس كلّ ما يُكتب ويذاع ويُتلفَز هو عمل إعلامي بله أن يكون عملا إعلاميا (ناجحا) فبعض المرسَلات الإعلامية تفرز نقيض المطلوب منها، وليس ذلك ما يهدف إليه الإعلام الناجح الجدير بصفته.
إنّ كلّ ما يُكتب يجب أن يكون بلغة سليمة متلائمة مع الموضوع، فأنْ تكتب مقالا في صحيفة، أو برنامجا إذاعيا، أو مسلسلا تلفازيّا، عن حياة أحد المطربين مثلا، فلك لغة خاصّة بالموضوع ستختلف عن تلك التي تستعملها وأنت تكتب مقالا في صحيفة أو برنامجا إذاعيا أو مسلسلا تلفازيا، عن حياة أحد العلماء الكبار في العلوم أو اللغة وفروعها. وعلى هذا قس ما عداه.
(وقد نلتقي مرة أخرى).
القدس العربي