أ. عبد المعين زيتون
كثر في الآنة الأخيرة الحديث عن اللغة العربية، وما تتعرض له من محاولات لإضعافها وطمسها والنيل منها بأشكال ووسائل شتى، لا بهدف إضعاف اللغة وحسب، بل للنيل من أهم عوامل وحدة الأمة باعتبار اللغة العربية هي أقوى عامل جامع للأمة والمجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج.
واستميح القارئ الكريم العذر في أن يسمح لي بتقديم رؤية متواضعة أصيغ من خلالها جملة من الأفكار والسبل للنهوض بالعربية..
بما لا شك فيه أن العربية لغة الأمة وهي حامل ثقافتها وحضارتها، وإرثها وتاريخها، وقد اهتمت كل الأمم البشرية بلغاتها وعملت جاهدة على الارتقاء بها عبر تاريخها ونشأتها..
وإنه ما من أحد فوق وجه الأرض يستطيع أن ينكر على العرب هذا الحق..
فاللغة العربية هي من أهم الركائز التي تقوم عليها وحدة العرب وهويتهم، وهي التي تميز بين العرب وسائر الأمم... فهي... أي اللغة توضح بجلاء هوية المجتمع وهي التي تثبت شخصيته، وانتماءه، وهي التي تحدد ملامحه..
وحين نطالب بالاهتمام بلغتنا، وإرساء قواعدها في أذهان أبناء العربية وأجيالها المتعاقبة، والارتقاء بمستواها على ألسنة كل من يتحدث بها، فإنا ندعو لهذا من باب الحرص والغيرة على لغة الضاد التي تعد الجامع الأقوى بين أبناء الأمة العربية.
وإذا كان أعداء العرب والعربية قد اجتهدوا وبذلوا ما استطاعوا من أجل إضعاف اللغة العربية على ألسنة أبنائها واستخدموا من أجل أهدافهم كل الوسائل، فإن من واجبنا نحن أبناء العربية أن نحافظ عليها وأن ننهض بها ما استطعنا إلى ذلك من سبيل..
والحقيقة أن التصدي لهذه المحاولات والنهوض باللغة يحتاج إلى تعاون كل أبناء العربية، كلٌ في حدود طاقته واستطاعته وإمكاناته، فمهمة النهوض بالعربية والحفاظ عليها وصونها، مهمة كبيرة، وهي أكبر كثيراً من أن تناط بدولة لوحدها، أو بمؤسسة تعليمية واحدة أو بهيئة واحدة أو بمجمع بعينه من مجامع اللغة العربية المنتشرة.
أقول ذلك، بعدما كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن واقع اللغة العربية وانتشرت ظاهرة ضعفها على ألسنة أبنائها، بل بعد ما ضعفت حتى على ألسنة المتعلمين العرب في علومها وآدابها، وعجز أغلبهم عن النطق والكتابة بها سليمة ونقية من الشوائب..
ومع كثرة المؤتمرات والندوات لتحديد العلل والأسباب التي أضعفت العربية، واقتراح العلاج وصدور التوصيات بهذا الشأن، مع كل هذه الجهود المشكورة والغيورة، إلا أن الملاحظ –للأسف- أن مستوى العربية يتدهور يوماً بعد يوم، وهذا من دون شك يدعو أي غيور على لغته أن يتبصر ويتدبر في أمر لغته.. ومن هنا فإني أرى التالي:
زيادة الاهتمام لدى الناشئة بتداول أمهات الكتب وقراءتها وحفظ الشعر العربي القديم وإدراج مفرداته وقت تسمح المناسبة، بغية تقويم ألسنة الدارسين والناشئة بمختلف مستوياتهم، مما يتيح لهم فرصة النطق السليم واللفظ الفصيح لمفردات اللغة العربية، وتذوق جماليات النظم البديع، بما في ذلك كتب التراث العربي ذات الأسلوب الرفيع في فروع اللغة والأدب والنقد، والاهتمام بحفظ النصوص الفصيحة نثراً وشعراً وإيلاء دراسة استيعاب ما احتوته من مفردات لغوية ثمينة، وصور بيانية رائعة ،الاهتمام اللازم والضروري من قبل المراسلين والمعلمين والأساتذة المعنيين بتدريس اللغة العربية، وذلك كي تتكون الملكة اللغوية القادرة على محاكاة هذه النصوص والإنشاء على منوالها لدى الدارسين والمتعلمين.
استخدام اللغة العربية في تدريس كافة المعارف والعلوم، لأن هذه اللغة ليست عاجزة –كما يدعي البعض- عن استيعاب وأداء العلوم الحديثة، وهي التي استوعبت التراث العلمي والفلسفي للأمم القديمة، وكانت الحامل الحضاري القادر لمدّ الجسور المتينة بين علوم هذه الأمم ونقلت إلى المكتبة العربية ذخائر العلم والفكر والثقافة لأعرق الحضارات التي عرفها التاريخ الإنساني..
ويكفينا هنا أن نستشهد بما قاله المستشرق (فيلا سبازا) عن تعلّم العرب باللغات الأجنبية:
«إلى الذين حولوا كل قواهم إلى التعلم باللغات الأجنبية جاعلين لغة أجدادهم في المنزلة الثانية، أوفي طيِّ الإهمال، قد سُدّت دون مواهبهم منازل الألمعية، إن ما أتمناه لهذه الأمة، هو سيادة لغتها، واللغة العربية من أغنى لغات العالم، بل هي أرقى من لغات أوروبا، واللغة العربية تضمن كل أدوات التعبير في أصولها، في حين أن الفرنسية والإنكليزية والإيطالية وسواها قد أنحدرت من لغات ميتة.
والأمر المهم الثالث هنا يكمن في استخدام الوسائل السمعية الحديثة لتحسين الأداء اللغوي لدى الطلاب والدارسين والمتعلمين، لأن التلقي عن طريق السماع فطرة جُبل عليها الإنسان..
والاستعانة بتسجيلات من الشعر والنثر بأصوات كبار الكتاب والأدباء، لأننا إذا أهملنا إسماع الطلاب عربيتنا الفصحى، كأننا نقتل موهبة القراءة الجهرية، من جهة وأسأنا لحب القراءة لديهم من جهة ثانية، وهو شأن كل من يتعلم اللغات الأجنبية باستخدام هذه الوسائل والطرق.
ولابدَّ هنا من القول إن ترغيب الدارسين للعربية أمر مهم جداً لتعزيز نشر الفصحى، وإن ذلك يتحقق في تهيئة المستقبل الراقي السعيد لهؤلاء الدارسين والخريجين.
ومما لا شك فيه أن يرفع حينئذ من مكانتهم الاجتماعية، لأنه يضعهم في المكان اللائق بهم كحملة لرسالة سامية.
ولابدَّ في هذا السياق والهدف من تعاون كل الدول العربية والدول المعنية بالحفاظ على العربية على نشر المدارس والمعاهد التي تعنى بتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها لا سيما في الدول الأجنبية، ودعم هذه المدارس بشتى الوسائل والسبل..
ولابد إذن من فرض رقابة على المناهج الدراسية للمدارس الأجنبية المنتشرة في البلاد العربية وإلزامها بتدريس اللغة العربية إلى جانب اللغات الأخرى بجدية واهتمام، لأن مثل هذه المدارس يعتمد عليها أعداء العربية وخصومها في إضعاف العربية وتسهم في تفريط العرب والناطقين بالعربية..
وعلى منحى متصل فإن الاهتمام بالجانب التطبيقي في تدريس العربية وعلومها، يعد أمراً واجباً وحيوياً إلى جانب الاهتمام في الجانب النظري والاصطلاحي، ذلك أن الكثير من طلاب العلم والمعلمين للعربية، وحتى الكثير من مدرسي اللغة العربية يعرفون قواعد اللغة، لكنهم لا يستطيعون تطبيقها في أحاديثهم أو كتاباتهم، ومن هنا فإنه لابد من التنبيه بقضية ذات صلة، وهي وسائل الإعلام.
ونظراً للتأثير الفعال لهذه الوسائل على مختلف فئات المجتمعات العربية وأعمارهم، وتفاعل الناس مع هذه الوسائل و توفر الأوقات الطويلة التي يصرفونها في التعاطي مع الإعلام بمختلف وسائله، فإن آثارها على ألسنة الناس وسلوكهم اللغوي لا يمكن إغفاله وإنكاره، لذا لابد من التخطيط الجاد للاستفادة من كل هذه الوسائل المقروءة والمسموعة والمشاهدة في دعم اللغة العربية ونشر الفصحى.
إن اللغة العربية هي كائن حي ينتقل بروحه وجسده على ألسنة العرب والناطقين بالعربية، وأية نظرة إلى اللغة العربية بأقل من هذا الشأن هو قصور عانى ويعاني منه المعنيون باللغة العربية وأدابها وعلومها، مما أسهم في إضعاف اللغة الأم، واستنساخ بدائل من اللهجات العامية الممسوخة في معظم المجتمعات العربية ما أدى إلى إضعاف العربية الفصحى، وأسهم في مساعدة خصوم اللغة من التطاول عليها والإساءة إلى هذه الحاضنة الجامعة للأمة العربية واستبدالها بحواضن عاجزة عن جمع الأمة ولملمت شتاتها في وقت نبدو فيه -نحن العرب- بأمس الحاجة إلى الوحدة والتضامن والتآلف.
العروبة