أ. دارين سمو
على الرغم من أن اللغة العربية كانت سبّاقة في احتلال مكانة رفيعة، مثلت حجر الزاوية في المكوّن الثقافي العثماني، بل في المكون الفكري العثماني على اختلاف مستوياته في فترة ما قبل عصر النهضة، وأثّرت بشكل واضح في الهوية التركية، مسجّلة حضوراً لافتاً بدون أن تصطدم معها كونها لغة الدين والعقيدة، إلا أنّها لم تشهد تطوراً في تعليمها وتعلّمها، الذي أخذ طابعاً دينياً أكثر. ولا تزال اللغة التركية إلى اليوم زاخرة بمفردات العربية وبعض قواعدها، ولا يخفى علينا أن الدولة التركية كانت لفترة طويلة تكتب بالحروف العربية، إلى أنْ انقلب عليها كمال أتاتورك في سياق سياسته القومية وتأثره بالتفوق الأوروبي لتحلّ الأبجدية اللاتينية مكان العربيّة.
والنهضة اللغويّة العربيّة لم تكن نتيجة طبيعيّة لاهتمام الأتراك بها، فما عاد بإمكان ثقافة الإقطاع والاستبداد في عهد الديار العثمانية أن تصمد أمام ثقافة رأسماليّة صاعدة، حطّمت المُسلّمات القديمة، وجعلت العلم والمعرفة مُلكيّة عامة وقوة إنتاج جبارة، فتحوّل الشرق من منتجٍ ومصدّرٍ للحضارة، إلى مُتلقٍ لبعض فتاتها من أوروبا الحديثة التي شهدت حراكاً لسانيّاً غربيّاً، مواكباً للنهضة العلمية التي طالت العلوم الأخرى، وبدأت إرسالياتها ومدارسها التبشيرية تولي اهتماماً بالمسيحيين العرب، تعليماً وثقافة وإعداداً مهنيّاً وتوظيفاً في مؤسساتها الاقتصادية، ومبانيها الموجودة اليوم في بيروت ودمشق وحلب تشهد على ذلك. فاشتراك مسيحيي الشرق مع الأوروبيين في الدين، جعلهم همزة وصل حيوية تحرّكت في اتّجاهات عديدة، وهيّأت لنشوء نخبة عربية مسيحية متعلِّمة ومثقفة تمكّنت من السفر إلى أوروبا والاطلاع على منجزاتها آنذاك، وترجمة آدابها وعلومها والإفادة من تراكماتها المعرفية. وهذا التواصل الذي شكّل نقطة التقاء بين الشرق والغرب، يمكن اعتباره المهد الأساسي لحركة النهضة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية.
فاطلع الشعب العربي على الأبحاث العلمية والفكرية والأدبية وغيرها من منجزات النهضة الأوروبية في مختلف فروع المعرفة، وبدأت حركة تنوير عربية تحاول مسايرة الحداثة الأوروبية على المستوى العلمي والثقافي والسياسي أيضاً، وكان من أهم روّادها المجدّدين ميخائيل نعيمة وبندلي الجوزي ونسيب عريضة وفارس نمر وأحمد فارس الشدياق وإسكندر الخوري وغيرهم. وبذلك، شكّل المسيحيون العرب في تلك الفترة حضوراً خاصاً، له فاعلية اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية دفعت الشرق باتجاه النهضة.
وكان مما برع فيه مسيحيو الشرق الترجمة ومعرفة اللغات التي اكتسبوها من خلال السفر إلى الدول الأوروبية والدراسة فيها والانكباب على قراءة النتاج الفكري العلمي والأدبي الأوروبي بلغته الأم، أو التي تعلّموها من خلال التعليم في المؤسّسات التي افتتحتها البعثات التبشيرية للطوائف المسيحية في لبنان وسورية وفلسطين كالكلية السورية البروتستانتية في لبنان، وقد امتازت هذه المؤسسات في عمومها بمستوى تربوي لائق، وثقافة عالية ومعرفة باللغة العربية، زوّدت طلبتها بقنوات للعلم الحديث وتخرّج منها كثير من روّاد النهضة كبطرس البستاني ولويس شيخو وناصيف اليازجي وفرنسيس مراش ولويس معلوف ورشيد الشرتوني وجورج حبش وقسطنطين زريق وغيرهم. وبذلك فتحت اللّغات والترجمة للنخبة المسيحية باباً واسعاً، فرفدت اللغة العربيّة بكثير من المصطلحات الوافدة والمسمّيات والتعبيرات الجديدة عن طريق الاستعارة والاقتراض والاشتقاق والنحت والتوليد اللفظي والتوليد الدلالي، وإصدار كتب القواعد والمعاجم وغيرها. ولعلّ المعجم العربي اليوم يتضمّن آلاف المصطلحات والمفاهيم التي دخلته عن طريق الترجمة. وعلى الرغم من السلبيات التي التصقت بتعريب المصطلحات الأجنبية يبقى للترجمة فضل في تعزيز اللغة العربية العلمية التي باتت تحتوي على مصطلحات علمية معروفة. وبذلك أسهمت الترجمة في تطوير اللغة لا باعتبارها ترفاً فكرياً، بل باعتبارها حاجة إنسانية ملحّة، فالدور الذي لعبته الترجمة في إثراء الحياة الاجتماعية والثقافية في العالم العربي لا يمكن إنكاره، خاصة عندما تجد اللغة نفسها مضطرة إلى مواكبة عصرها العلمي والمعرفي، فتطوُّر اللغة معرفياً يؤثر في بنية اللغة مباشرة ويجعلها تواكب عصرها وتتجدّد من خلال معرفة اللغات الأخرى والدخول في الحوار الحضاري معها.
وفي الفترة نفسها بدأ التأسيس للغة الصحافة التي تتطلب نثراً مرسلاً وأساليب كتابية مبتكرة تحمل الفكرة بدقة، بعيداً عن الأسلوب المسجّع المزخرف المتكلَّف، والعبث البديعي وأغلال الصنعة الموروثة من عصور خلت، نراها واضحة في أسلوب ابن نباتة وابن حبيب الحلبي، محاولةً أن تشكل أداة تعبير تستوعب تطورات الحياة، فازدهرت حركة طباعة المجلات والصحف العلمية في مجالات الطب والتعليم والسياسة، كصحيفة «المقتطف» التي أسسها يعقوب صروف وفارس نمر… وبذلك قطعت اللغة شوطاً كان له أبلغ الأثر في تجديد اللغة وبعثها بما يتوافق ومتغيرات الحياة، وإعادة هيبتها بثوب عصري جديد، وهذا ما نقرؤه في أعمال أعضاء الرابطة القلمية في أمريكا من أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة في بداية العشرينيات من القرن الماضي.
وإذا كانت صرخة التجديد اللغوي العصرية التي حملها مسيحيو الشرق تطمح إلى إعادة بناء النسق اللساني بما ينسجم مع تغيرات عصر النهضة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية آنذاك وجعلتنا نقرأ من خلال هذا المستوى اللغوي لكبار الكتّاب من أمثال العقاد والرافعي والمنفلوطي، فأين حضور دور العرب المسيحيين اليوم وسط التغيرات التي تحصل في العالم العربي وتتطلب هي الأخرى الوعي بأهمية اللغة العربية كلغة أدب وإعلام وسياسة وتخاطب؟ وهل ما زال مسيحيو الشرق محافظين على دورهم الرائد في عصر الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؟
القدس العربي