النّحت ظاهرةً لغويّة احتاجت إليها، اللّغة العربيّة قديمًا وحديثًا
د. نوال بنت سيف البلوشية
تمتلك اللّغة العربيّة خصائص عدّة، والّتي من شأنها تميّزها عن غيرها من اللُّغَات. ومن إحدى هذه الخصائص الّتي تمتاز بها لغة الضّاد " النّحت ".
فقد عرّف علماء اللّغة النّحت أنّه: " النّشر، والقشر، و البري، و القطع. وعرّفها ابن فارس في مقاييس اللّغة (٤٠٤): بأنّها " كلمةٌ تدل على نجر شيء، وتسويتهُ بحديدةٍ".
كما عرَّفها ابن منظور في معجم لسان العرب بقوله : " النّشر والقشر، والنّحت: نحتَ النّجارُ الخشبَ. ونُحِيتَ الجبلُ ينحتهُ: أي قطّعهُ. ونحتَهُ ينحتهُ، بالكسر، نحتا أي: براهُ... والنّحيتُ: الرّديء من كلّ شيء. ونحتَهُ بالعصا ينحتهُ نحتًا: ضربه بها..."
تبيّن فيما سبق أنّ في النّحت معنى الاختزال والاختصار، بطريقةٍ تتناسب مع بناء الكلمة العربيّة.
ويؤكد ذلك المعنى اللّغوي ما ورد في القرآن الكريم، قال تعالى:" وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) الشعراء. وقال تعالى: " وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) الحجرات.
وقال تعالى: " قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) الصّافات.
فالنّحت المُشار إليه في الآيات السّابقات؛ قطع للحجارة ثم تسويتهُ لتحقيق بناء جديد، وهذا يترتب عليه تحقيق شيء جديد لم يكن سابقًا.
أما النّحت في الاصطلاح عند علماء اللّغة يتمثل: في قول ابن فارس: " أن تأخذ كلمتان، وتنحت منهما كلمة تكون آخذة منها جميعًا بِحَظ. " ( البطاينة: ١٩٩٥، ٢) وعند الخليل: " أخذ كلمة من كلمتين متعاقبتين، واشتقاق فعلٌ منهما" (الفراهيديّ،١٩٨٠: ٦٠ ).
ويعدّ الخليل بن أحمد الفراهيديّ، هو أوَّل من أكتشفَ ظاهرة النّحت في اللّغة العربيّة حين قال: " أنّ العين لا تأتلف مع الحاء في كلمة واحدة لقرب مخرجيهما، إلا أنّ يُشتَق فعلٌ من جمع بين كلمتين مثل: ( حيّ على ) كقول الشّاعر:
ألا ربّ طيف بات منكَ معانقتي إلى أنّ حيعلَ الدّاعي الفلاحا
وقول الشّاعر:
أقـول لـها ودمـع العـين جــــارٍ ألـم يُـحـزنكَ حيّعـــلةَ المنـــادي
فهذه كلمة جمعت من ( حيّ ) ومن (على ). ونقول منه ( حيعل، يحيعل، حيعلة) ...
يتضح لنا من تعريف ابن فارس أنّ النّحت عند القدماء يتحدد في بناء كلمة واحدة من كلمتين. وقد قال الخليل بن أحمد الفراهيديّ في هذا:
" وتقول منه: حيعل يحيعل حيعلة، وقد أكثرت من الحيعلة، أي من قولك: ( حيّ على )، وهذا يشبه قولهم: تعبشم الرّجل، وتعبقسَ. ورجلٌ عبشميّ ( وعبقسيّ)، إذ كان من عبد شمس أو من عبد قيس، فأخذوا من كلمتين متعاقبتين كلمة، واشتقوا فعلاً ".
فقد بيّن ابن فارس حد النّحت بقوله: " العرب تنحت من كلمتين كلمة واحدة، وهو جنسٌ من الاختصار".
أما عند المحدثين، فقد عُرّف النّحت اصطلاحًا، مثل الدكتور نهاد الموسى الوارد ذكره في مقالة بلاسي ( ١٩٩٩: ٢ ) " بناء كلمة جديدة من كلمتين أو أكثر أو من جملة، بحيث تكون الكلمتان أو الكلمات متباينتين في المعنى والصّورة، بحيث تكون الكلمة الجديدة آخذة منها جميعًا بحظ في اللّفظ، دالة عليها جميعًا في المعنى".
نلاحظ أن تعريف الخليل للنحت يقصر عن تعريف المحدثين، فقد حدد المنحوت بأنّه ما أُخذ من لفظين، وقيدهما بلفظٍ متعاقبين، فهذا الحصر يخرج بعض الألفاظ المنحوتة المسموعة عن العرب مثل: بَسْمَلَ أو حَوُقَلَ، وأشباههما إذ هي منحوتة من جملةٍ، إضافة إلى أنّ التعريف لم يتعرض إلى طريقة نحتها، بعكس حد المحدثين الَّذِي أرى أنّه شاملٌ في الفهم والتّوضيح.
وقد ألمح سيبويه إلى معنى النّحت في اللّغة العربيّة حين قال: " قد يجعلون للنسب اسمًا بمنزلة جَعْفَر، ويجعلون فيه من حروف الأوّل والآخر، ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف". (الضّامن،١٩٩٠: ٦٠ ).
لم يقتصر ابن فارس على ذكره الخليل عن النّحت، بلّ وسّعَ قاعدة الكلمات الّتي يشملها بقول: " وهذا مذهبنا في أنّ الأشياء الزّائدة على ثلاثة أحرف، فأكثرها منحوت".
أقسام النّحت:
من خلال استقراء الأمثلة الّتي أوردها الخليل بن أحمد الفراهيديّ، وابن فارس؛ قسّم المتأخرون النّحت كالآتي:
١- النّحت الفعليّ:
وهو أن تنحتَ من الجملة فعلاً، يدل على النّطق بها، على حدوث مضمونها، مثل: ( جَعْفَر ) من: جعلتُ فِداكَ، و( بَسْمَلَ ) من: بِسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
٢- النّحت الاسميّ:
وهو أن تنحتَ من كلمتين، اسمًا، مثل: ( جَلّمُود ) من: جَمَدَ و جَلِدَ. و مثل: ( حَبْقَرَ ) للبرد، وأصلهُ حبّ قرَّ.
٣- النّحت النّسبيّ:
وهو أن تنسبَ شيئًا أو شخصًا بلدتي: ( طبرستان )
و ( خوارزم ) مثلاً، تُنحت من اسميهما اسمًا واحدًا، على صيغة اسم المنسوب، فتقول: ( طبرخزي )
٤- النّحت الوصفيّ:
وهو أن تنحت من كلمتين، تدل على صفةٍ بمعناها أو بأشد منه، مثل: ( ضَبْطَرَ ) للرجل الشَّدِيد مأخوذة من ضَبَطَ و صبر، ومثل: ( الصّلدم )، وهو الشَّدِيد الحافر مأخوذة من الصّلد والصّدم.
٥- النّحت الحرفيّ:
يتمثل في بعض الحروف الّتي نحت فيها النّحويين، مثل:
لكنَّ فقد رأى الفراء أنّ أصلها ( لكن + أنّ ) طُرحت الهمزة لتحقيق والنّون. ( لكنْ ) للساكنين، وذهب بعض الكوفيين إلى أنّ أصلها ( لا ) و ( أنّ ) و الكاف فيها زائدة لا التّشبيهيّة، وحُذفت الهمزة تخفيفًا.
أما المحدثون من أهل اللّغة، فقد أوردوا النّحت على صورٍ عدّة تمثلت في:
١- تأليف كلمة من جملة، إذ تفيد الكلمة المنحوتة مدلولها:
مثل، بسملَ المأخوذة من ( بِسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ).
٢- تأليف كلمة من المضاف والمضاف إليه، عند قصد النّسبة إلى المركب الإضافي إذ كان علمًا، مثل: عبدريّ في النّسبة إلى عبد الدَّار.
٣- تأليف كلمة من كلمتين أو أكثر، في إفادة معنى جديد مستقل تمام الاستقلال عن الكلمات الّتي نُحتت منها الكلمة. مثل ( هَلّمَ ): يرى الفراء أنّها من ( هل ) الاستفهاميّة، ومن فعل الأمر ( أمّ ) بمعنى أقصد وتعال، وَقِيل: أنّها مركبة من ( هاء التّنبيه ) و ( لم )، بمعنى ضَمّ.
وقد أدركَ مجمع اللّغة العربيّة في القاهرة أهمّيّة النّحت فاتّخذ قرارًا بجوازه؛ إذ قرر أنّ: " النّحت ظاهرةً لغويّة احتاجت إليها اللّغة العربيّة قديمًا وحديثًا، ولم يلتزم فيه الأخذ من كلّ الكلمات ولا موافقة الحركات والسّكنات. وقد وردت من هذا النّوع كثيرة وتُجيز قياسيّتة".
إذ أجازوا أن يُنحت من كلمتين أو أكثر اسمٌ أو فعلٌ عند الحاجة مع مراعاة الاستخدام الأصليّ من الحروف دون الزّيادة.
فإن كان المنحوتُ اسمًا اشترط أن يكون على وزنٍ عربيّ والوصف منه بإضافةِ ياء النّسب.
وإن كان فعلاً: كان وزن ( فَعْلَلَ ) أو ( تَفَعْلَلَ ) إلا إذا اقتضت غير ذلك الضّرورة تساويًا على ما ورد من الكلمات المنحوتة.
ومن اللّغويين المعاصرين من عبّر عن النّحت في معناه الاصطلاحيّ: بالتركيب والاختزال (البطاينة: ١٩٩٩، ٩)
أمثله على النّحت:
الحرقوف = حرف + حقف ( الدّابة المهزولة ).
دلمس = دلسَ + دمسَ ( الدّاهية ).
الصّلقَم = صلقَ + لقمَ ( الشَّديد العض ).
الشناعين= شعفَ + نعفَ ( رؤوس تخرج من الجبل ).
علاقة النّحت بالاشتقاق
بعد استقراء الدّراسات الّتي تناولت موضوعات النّحت تبيّن انقسام علماء اللّغة إزاء نسبة الاشتقاق إلى النّحت إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: يرى أنّ النّحت نوعٌ من الاشتقاق: في كلّ منهما توليد شيء من شيء، وفي كلّ منهما فرع وأصل، ولا يتمثل الفرق بينهما إلا في اشتقاق كلمة من كلمتين أو أكثر على طريق النّحت واشتقاق كلمة من كلمة في قياس التّصريف ( الصَّالِح: ٢٠١٨).
الثّاني: يرى أنّ النّحت غريب عن نظام اللّغة العربيّة الاشتقاقيّ؛ لذا لا يصحّ أن يُعدّ قسمًا من الاشتقاق. وحجتهم في هذا الرّأي أنّ الهدف من الاشتقاق استحضار معنى جديد، والهدف من النّحت الاختصار فقط.
الثّالث: يرى أنّ النّحت يندرج في باب الاشتقاق
وقد تفرَّد بهذا الرأي العلّامة محمود شكري الألوسيّ
بقوله: " والنّحت بأنواعه من قسم الاشتقاق الأكبر ( الألوسيّ: ١٤٠٩هـ، ٣٩).
نستنتج مما سبق:
١- أنّ نشأة النّحت في اللّغة العربيّة كانت استجابة لضرورة تداوليّة خطابيّة فرضتها عوامل اجتماعيّة وفكريّة، كما كانت ضرورة لغويّة فرضتها الاهتمام اللّغويّ.
٢- أنّ الخليل بن أحمد الفراهيديّ كان الأسبق في اكتشاف ظاهرة النّحت في اللّغة العربيّة، وسار على مذهبه من جاء من بعده.
٣- لقد استلطفَ ابن فارس فكرة النّحت وطبّقها على أمثلة كثيرة في كتابه مقاييس اللّغة فخرج لما بنظرية مفادها: أنّ أكثر الكلمات الزّائدة على ثلاثة أحرف، منحوت من لفظين ثلاثيين.
٤- تنوعت مواقف علماء اللّغة المحدثين في ظاهرة النّحت منهم من اتفق في أهمّيّة وجودها كوسيلةٍ للتوسّع في مفردات اللّغة بما يمتلكون من الكلمات الفصيحات المنحوتات. ومنهم من وقف موقف المحايد الَّذِي يُبيّن عدم انسجام هذه الظّاهرة مع النّسيج العربي للمفردات والتّركيبات؛ باعتبار الكلمات المنحوتة تُبعِد الكلمات عن أصلها العربيّ الفصيح.
المراجع
1. الألوسي، محمد شكري (1409هـ) كتاب النّحت وبيان حقيقته ونبذة من قواعده: للعلامة السيد محمود شكري الألوسي. تحقيق وشرح محمد بهجت الأثريّ. المجمع العلمي العراقيّ.
2. بلاسي، م. ا. ع. (1999). النحت في اللغة العربية. اللسان العربى - المغرب، ع 47 ، 275 - 283. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/177459
3. بلاسي، م. ا. ع. (2002). النحت في اللغة العربية. الدرعية - السعودية، مج 5, ع 18,19 ، 445 - 456. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/150431
4. جرجس، ر. (1961). النحت في العربية. مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة - مصر، ج 13 ، 61 - 78. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/226948
5. حسن، م. ي. (1996). دور النحت في تيسير الأداء العلمي بالعربية. مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة - مصر، ج 78 ، 124 - 131. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/259249
6. خسارة، م. (2011). الندوة الدولية الأولى للحرف العربي في النحت بين الإيقاع و التوازن. مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق - سوريا، مج 86, ج 1 ، 234 - 237. مسترجع من http://search.mandumah.com/R
7. الصالح، صبحي. (د:ت) . دراسات في فقه اللّغة ص 243-244.
8. غصن، م. (1935). النحت في اللغة العربية وسيلة لتوسيع اللغة. مجلة المجمع العلمي العربي - سوريا، مج 13, ج 5,6 ، 300 - 302. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/256463
9. كروم، أ. (1998). النحت في اللغة العربية مظاهر واشكا ليات. دراسات ( مجلة كلية الاداب والعلوم الانسانية بأكادير ) - المغرب، ع 8 ، 79 - 108. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/322612
10. مصر. مجمع اللغة العربية. (1953). النحت. مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة - مصر، ج 7 ، 201 - 204. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/220867
11. مطلوب، أ. (2001). النحت في اللغة العربية. مجلة المجمع العلمى العراقى - العراق، مج 48, ج 2 ، 5 - 29. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/174414
12. موقع الوراق/ معجم لسان العرب الإلكتروني / مسترجع بتاريخ 23_ 4_2018م
13. ميناجيان، ك. ز. (1972). النحت قديما و حديثا. اللسان العربى - المغرب، مج 9, ع 1 ، 162 - 177. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/182410
14. النعيمي، س. (1973). النحت: بحث قدم إلى لجنة الأصول. مجلة المجمع العلمى العراقى - العراق، مج 23 ، 89 - 99. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/171885
|