|
|

الغربة فوق كوبرى أكتوبر
أ. هناء دكرورى
وسط زحام كوبرى أكتوبر، يجد الكثير منا بعض التسلية فى متابعة اللوحات الإعلانية التى يزداد عددها يوما بعد يوم فوق الكوبري.
وبعيدا عن التلوث البصرى الناجم عن عشوائية أحجام وألوان اللوحات، فضلا عن الإضاءات الليلية المبهرة التى قد تفقد قائد السيارة القدرة على التركيز، يدهشك كم الإعلانات المصاغة باللغة الإنجليزية فقط وكأنها لغتنا الأم، إعلانات تعد بالاسترخاء والسعادة والانسجام والمتعة، تجعل نظرك للأعلى مما يفصلك عن واقع الكوبرى من اختناق مرورى وأسفلت متآكل وأساليب قيادة غير مبررة.
ثم تتساءل لماذا الانجليزية؟ ولماذا تلك الأسماء الغربية؟ فتجد أن ذلك مقصود، حيث إن أغلب تلك الإعلانات تروج لمنتجعات وكومباوندات وبالتالى هى تتعمد التوجه للصفوة ومخاطبتهم دون غيرهم. ولكن هل تلك الفئة بحاجة إلى ما يزيد انفصالها عن الواقع واغترابها عن مجتمعها، بحيث يحجم المعلنون عن مخاطبتها بلغة البلد الذى تعيش فيه، وكأن أبناء تلك الطبقة لم يعودوا يفهمون بـالعربى أو أن لغة الضاد أصبحت لغة دون المستوى، ثم أى غربة وعزلة قد يشعر بها المواطن العادي، مع افتراضنا أنه يجيد القراءة أصلا، وهو يرى غابة من الإعلانات عن أماكن ليس مكتوبا له مجرد الحلم بارتيادها فى يوم من الأيام بل إنه محروم من قراءة أسمائها، ناهيك عن معرفة معانيها. أتذكر فى أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات انتشار ظاهرة مشابهة وهى استخدام أسماء أجنبية فى لافتات المحلات التجارية للدلالة على الفخامة أو التميز أو لمجرد لفت الانتباه.
ولأن الكثير من أصحاب تلك المحلات ومرتاديها لم يكونوا يهتمون حتى بمعرفة معانى تلك الأسماء الأجنبية، وبالتالى كان لا يفرق معهم كيف كتبت، وكنا نتسلى فى ذلك الوقت باصطياد الأخطاء الاملائية فى كتابة الاسم الأجنبى ونتساءل فيما بيننا « لما مالهمش فى الانجليزي.. إيه اللى جابرهم عليه»؟!، وقد تناول الكثيرون من الغيورين على اللغة العربية الظاهرة بالتحليل والانتقاد على صفحات الجرائد وطالبوا باتخاذ إجراءات لوقف استخدام الأسماء الأجنبية فى لافتات المحال التجارية ولكنها دخلت إلى غياهب النسيان. والآن وإلى أن تدرك شركات العقارات والاعلانات جماليات اللغة العربية وضرورة الابتعاد ولو قليلا عن الانسحاق أمام كل ما هو أجنبي، أفكر فى حمل قاموس معي، أو ربما اصطحاب مترجم، فوق الكوبرى للتفتيش عن معانى بعض الأسماء التى وصل إغراقها فى الإنجليزية لدرجة أن أحد المنتجعات انتقى اسم درجة من درجات اللون الأزرق أتحدى أن يعرفه الكثيرون من الناطقين بالانجليزية!
وصدق من قال إن ثلاث فئات من المصريين تشعر بالغربة فوق كوبرى أكتوبر: الثرى الذى يقود سيارته المكيفة المغلقة ولا يشعر بانتمائه لهذا الواقع، والمواطن البسيط الذى يشعر بأنه منسى وأن محدش عامله حساب، والمواطن المثقف الذى يجيد الإنجليزية ويعجز عن الربط بين ما تعد به الإعلانات ومايعانيه المصريون فى حياتهم اليومية ،كما يدرك أن اللجوء للغة اجنبية بديلا عن اللغة العربية يساعد فى توسيع نطاق التغريب.
الأهرام
|
|
|
|
|