أ. يوسف القعيد
كأنهم يريدون تعكير احتفالنا المشروع بمرور 66 عاماً على قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، قبل أيام من الاحتفال، بالتحديد فجر الخميس الماضى، أصدر الكنيست الصهيونى قانون الدولة القومية، الذى اعتبره البعض يساوى اغتصاب فلسطين، ويغلق الباب تماماً ونهائياً أمام أى أحلام فى نهاية عادلة للصراع. أليس فيما أكتبه مبالغة تحكم الكثير من كتابات الأدباء أحياناً؟ قانون القومية الذى أيده 62 نائباً، مقابل رفض 55، وامتناع نائبين عن التصويت من أصل 120 أعضاء الكنيست. القانون ينص على أن إسرائيل هى الدولة القومية للشعب اليهودى. وأن حق تقرير المصير يخص الشعب اليهودى فقط. ويحدد اللغة العبرية باعتبارها اللغة الرسمية فى الكيان الصهيونى. بينما ينزع هذه الصفة عن اللغة العربية. التى كانت تعتبر اللغة الثانية. وبموجب التطورات المثيرة الأخيرة. أصبحت اللغة العربية فى فلسطين هى والعدم سواء. كأنها لا وجود لها.
بموجب القانون فإن مفهوم الهجرة إلى الدولة التى اغتصبت فلسطين التى تؤدى إلى المواطنة المباشرة لليهود فقط. يعتبر القانون تطوير الاستيطان اليهودى قيمة قومية. وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته. وأى خلافات فى الاستيطان يتم الاستناد فى مواجهتها للقانون الصهيونى فقط. ولا يوجد أى قانون آخر غيره.
هذا القانون يواجهنا بما نحاول الهروب منه منذ 70 عاماً مضت. كأنها سنوات العلقم الذى كُتِب علينا أن نتجرعه فى كل لحظة تمر بنا. بموجب القانون أصبح لليهودى وحده. اليهودى دون سواه. الحياة فى إسرائيل. ضنوا علينا بأن يقولوا الحياة فى فلسطين. لأنهم يريدون شطب فلسطين من مفردات اللغة التى يتعاملون معها. قالوا وهم يرقصون طرباً فى تل أبيب. القانون أعاد إسرائيل للصهيونية. وكأن إسرائيل كانت بعيدة عن الصهيونية منذ قيام الدولة العبرية. بل إنهم فى كلمات الكنيست يشيرون لتيودور هيرتزل، صاحب الحلم المجرم الأول. وما قام به من أجل المشروع الذى أصاب الوطن العربى والأمة الإسلامية فى حبة القلب. ومن باب ممارسة الهوان الذاتى أكتب أن تيودور هرتزل 2 مايو 1860 3 يوليو 1904، الاسم العبرى لختانة بنيامين زئيف، المعروف أيضاً بالعبرية باسم: «رؤيا الدولة» وكان صحفياً نمساوياً مجريا، وكاتبا مسرحيا، ابتلانا بالصهيونية السياسية الحديثة. شكل المنطقة الصهيونية، وشجع الهجرة اليهودية لفلسطين. وعلى الرغم أنه توفى قبل اغتصاب فلسطين. إلا أنهم يعتبرونه الأب الروحى للكيان الصهيونى المعتدى. أكتب هذا الكلام انطلاقاً من مقولة الستينيات ـ هل ما زالت صالحة حتى الآن؟ ـ أشك فى هذا، ومع هذا أكتبها: إعرف عدوك.
القدس الشرقية والقدس الغربية بعد القانون ستصبحان كياناً واحداً يسمي: القدس الكبرى. يمثل عاصمة الكيان الإسرائيلى الجديد. وستبقى عاصمتها إلى الأبد. والدور المطلوب من حكومة الاحتلال أن تعمل على تشجيع الاستيطان اليهودى فى كل مكان فى أرض إسرائيل. لاحظت أنهم حذفوا من قاموسهم كلمة: فلسطين. وكأنها لا وجود لها. لا تاريخياً ولا وجدانياً ولا شعبياً. أو ربما لم توجد أساساً. إقامة صلة بين يوليو وذكراها وما يجب علينا تجاهها، وبين ما اتخذوه هناك تجاه فلسطين اجتهاد يخصنى وحدى. ربما كنت مصيباً، وربما كنت مخطئاً. وليس لديّ دليل أنهم تعمدوا هذا التاريخ بالذات. لكن إحساسى الإنسانى يقول لى إنه لا شئ يتم بالصدفة. ولا يجرى بمنطق الخيال.
يوليو وفلسطين علاقة متداخلة ومتشابكة ومركبة. ففى فلسطين جرى التخطيط ليوليو، ربما نبتت فكرة الثورة بين الضباط الذين كانوا هناك. وقد يكون لتطورات المعركة سبب جوهرى فى حسم الثورة. ومن المؤكد أن تقديم موعد الثورة اتخذ فى فلسطين. قبل أن تنتهى الحرب العربية الصهيونية الأولى نهايتها المأساوية الكبرى. من عادوا من فلسطين هم من قاموا بالثورة. لذلك كانت فلسطين قضية مصرية قبل أن تكون قضية عربية أو إسلامية أو حتى فلسطينية. والتاريخ يقول لنا إن القادة الكبار فى تاريخ مصر حاربوا معارك مصر خارج حدودها. إما فى فلسطين مثلما فعل صلاح الدين الأيوبى. أو فى الشام كما حارب قطز. الذى لم يكن يدافع عن مصر بقدر ما كان يدافع عن دورها ومحيطها وأهميتها ومبرر وجودها. وتبقى للنهاية أسئلتها التى أطرحها ولا أحلم بالوصول لإجابات لها. ولا أعرف لماذا ألجأ إلى سؤال بلا إجابة: فلسطين إلى أين؟ فلسطين إلى متي؟ فلسطين كيف؟ فلسطين لماذا؟ كانوا يقولون مثلاً شعبياً متوارثاً فى قريتى عندما كنت طفلاً. كانوا يقولون: يا فرعون إيش فرعنك؟ فكان يرد عليهم: ما لقتش حد يردنى. وها أنذا أخاطبهم: يا أعدائى ما الذى فرعنكم؟ سيقولون لي: هل هناك من حاول أن يردنا؟ إن كان هناك دلنا عليه، سواء من أصحاب القضية أو المتعاطفين معهم، أو أى أحد على الإطلاق.
إن هذا يوصلنى إلى آخر النفق المظلم الذى أسير فيه. ولا أحاول أن أطل على الدنيا خارجاً من النفق. لذلك لن أكتب عن ردود الأفعال الفلسطينية والعربية والإسلامية. بل والعالمية، التى لم تخرج عن كلمات مثل: الشجب، الإدانة. كلمة الرفض خافوا أن يقتربوا منها. عند استخدام الإدانة. فإن جامعة الدول العربية هى التى أصدرت بياناً عقب ما جرى. ولأنه البيان الوحيد، وربما البيان اليتيم الذى صدر.
سألت نفسى وأنا أقرأ نصه منشورا: هل أصدرت الجامعة العربية البيان نيابة عن الدول العربية الشقيقة؟ أم لتعفيها من حرج إصدار بيانات؟ هل كان هناك اتفاق حول الأمر؟ أم أن الأمور تجرى بمسلسل من الصدف هدفه الوحيد أن يفقد العربى ثقته فى عروبته؟ وأن ينسى الوطنى وطنه ودياره وبلاده. لأن تبعاتها ضخمة ومسئوليات قولها لا يقدر عليها أحد. ولذلك مرحباً بأن نشجب. وأهلا وسهلا بأن ندين. هم يفعلون ونحن نتكلم. وحتى من يتكلم قلة نادرة. ربما تعد على أصابع اليد الواحدة. اليوم هو الثالث والعشرون من يوليو سنة 2018، لا أعرف ماذا سنفعل بالستة وستين عاماً التى مرت على قيام ثورة يوليو؟ ماذا سنقول؟ كيف سنتصرف؟ هل نذهب إلى 1952 أم نسبقه إلى 1948؟ أم نعود إلى 2018؟.
الأهرام