|
|

قاموس للغة أم قواميس للحياة
أ . ياسين النصير
ما يتداول ثقافيًا ومعرفيًا، أن حضور القاموس يعني ضبط المقولات ووضعها في السياق الذي تؤدي الألفاظ فيه معانيها الكاملة، لذلك تكون الحاجة إلى القاموس، مرهونة في الإختلاف في معاني ودلالات اللفظ، ولكن هذا الاختلاف الذي يجد له صورة ضمينة في اللفظ، أتى نتيجة مبادلة الحوار وتأويل اللفظ واتساع الدلالة، فلفظ مثل الطريق التي تعني المنهج والسياق، كما تعني الجادة والشرعة والسابلة والمماشى والاتصال بين نقطتين ...الخ من الدلالات التي تتسع بالاستعارة
، كأن نقول الطرق أفكار، أو الطرق حوارات، أو الطريق رأسمال للمعرفة، أو معرفة الطريق نصف المسافة، او الطرق تنظيم المعرفة،...الخ لذلك باتساع استعارة الطريق يمكننا أن نقف على مستويات عديدة لأي لفظ. ومن هنا جاءت أهمية قواميس اللغة في البحث عن دلالات غير مألوفة في الألفاظ العادية، ولكن النقطة المهمة في هذا الميدان، إنَّ أيّ لفظ في القاموس لا يمكن أن يكون مصطلحًا أو مفهومًا دون أن تؤسس اللفظة مفاهيمها مجتمعيا وثقافيا واصطلاحيًا، لذلك لا معنى لأية استعارة من القاموس للدلالة على مصطلح غير مؤسس لغة وممارسة اجتماعية وثقافية، ويكون له جذور لفهم الظاهرة وتفرعات، فكل مصطلح له عمومة وخؤولة وأبناء وأقارب، ومجتمع للتبادل، ولن يكون مصطلحًا ما لم يتم التعرف على كل تركيبة هذه
الاسرة.
إلا أننا كمشتغلين في حقل الثقافة، علينا أن نفكر أن قواميس اللغة وحدها غير كافية للوقوف على معاني ودلالات وحقول اشتعال الثقافة، إذا لا يمكنك أن تعالج اي موضوع اجتماعي، اقتصادي، فلسفي، طبي، مهني، بقاموس اللغة العربية فقط، فقاموس اللغة العربية مختص باللغة وأبعادها ومضامين الكلمات وحقول اشتغالها ضمن اللغة، في حين أن القاموس الزراعي أو الطبي أو التعليمي أو الاقتصادي أو القانوني أو السياسي أو العسكري، أو السياحي...الخ، لا يكتفي بالمفردات التي جاءت بها قواميس اللغة، بل لكل حقل قاموسه الذي بدونه لا نفهم كيفية تشكيل معارف هذا الحقل.
وأنا أتحدث عن هذه البديهية، وجدت نفسي في معرض القاهرة للكتاب، أمام حقل من الأسماء المهنية والعملية وقد اختص كل حقل بقاموس لأبجديته، فللسياحة قاموسها، وللرياضة قاموسها، وللطب قاموسه وهكذا يتطلب الوقوف على المعرفة أن تبدأ بفهم أن اللغة ليست إلا مفتاحًا اوليًا لفهم الحقل الذي تشتغل عليه، ما وراء اللغة ثمة مفاهيم ومصطلحات تختص ببنية الحقل وتفصيلاته وثمة تاريخ لأي معيار أو مصطلح يقودنا لمعرفة هذه الجزئية أو تلك. من جملة القواميس التي اثارت انتباهي ما قرأته أنه يختص بالتواصل على الصعيد الدولي وهو شكل مبسط من اللغة الإنجليزية يقتصر على 850 كلمة فقط، مختص في تقنيات التواصل والتجارة ذات دلالة
لافتة.
الحاجة لمثل هذه القواميس التفصيلية، فرضتها سعة العلاقات بين الأمكنة والناس، المهن والناس، حقول المعرفة والتعليم، الفلسفة ومديات السؤال، وإذا ما تعمقت في السؤال، تجد أن الحافز الأساسي للمعرفة عن طريق تنوع القواميس هو الإتصال الثقافي وهو ظاهرة عامة لا تخص السواح ولا انتشار الأسواق ولا تعميم الكتاب، ولا الاتصال بالحداثة أو مابعد الحداثة، إنما ما تفرضه اثنولويجا الـ"هنا" من "تعامل دائم مع الـ"هناك"، من دون أن تشكل مكانة هذه الـ" ـهناك" موضوعًا فريدًا ومتمايزاً أوغرائبيًا". الاتصال يفرض اشكالا من القواميس التي تقيس مديات الحركة بين الشعوب وطرائق تداخل معرفها.
الصباح
|
|
|
|
|