للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

حديثٌ عن اللغة العربية

أ. عبدالعزيز قاسم

 

طلبتُ من الابن محمد بن موسى الدرقيني أن يترجم لي ما سأشكر به والدته؛ نظير ما أكرمتني به قبل 28 عاماً، وأصدقائي الذين توافدنا على “القرية الشرقية” في قيرغيزيا إذاك، بما سردتُ في مقالاتي الأربع الماضيات، والسيدة الكريمة ضافتني في زيارتي الأخيرة لها قبل أسابيع، فوجهتُ لها شكري مخلوطاً بمشاعر امتنان حقيقية، وتقديرٍ عالٍ لما قامت به تجاهنا بتلك الفترة، وتحدثتُ بكثيرٍ من العاطفة المكتنزة من ثلاثة عقود بدواخلنا جميعاً، نحن الشباب الذين فتحتْ لنا بيتها، وأكرمتنا وخدمتنا كثيراً.

كنت أتحدثُ بشيء من الاسهاب والعاطفة لوالدته، التي كانت وراء الباب تستمع لما أقول، وكان ابنها محمد يترجم لها ما عبّرتُ به في بضع كلمات قلائل، وكان يترجم بوقتٍ وجيز جداً، وأنا الذي كنت ربما أخطبُ في ذلك المجلس من فرط انثيال مشاعري الممتنة، وبعد أن انتهينا، وشكرتني بدورها؛ توجهتُ بلومٍ وتقريعٍ للابن محمد أمام والده وأعمامه وإخوته الذين كانوا حاضرين؛ أنك لم تنقل مشاعري الفيّاضة لوالدتك، ولم أتلمّس إلا برودك في الترجمة المهترئة، وأنا الذي حرصتُ عليك من بين كل إخوتك وشباب القرية أن تترجم لي، لأنك أفضل من يتحدث العربية بهذه الديار، ومضيتُ في لومي له، لأفاجأ به يقول لي: “على رسلك يا عمي، فأنا بذلت قصارى جهدي، وملاحظتك صحيحة فعلا وأتفهمها، ولكن السبب يكمن في لغتنا التي لا تتوازى مع اللغة العربية ثراء” .
توقفتُ هنا، وطلبت منه أن يوضح لي أكثر، فقال لي: “قبل كل شيء، وأنت للتو قلت بأنني أفضل من يتحدث العربية بطلاقة ويفهمها في هذه الديار، ولربما كنت محقاً بعض الشيء، لأنني خريج الجامعة الهاشمية بالأردن، وكان تخصصي في اللغة العربية، وتخرجت من كلية الآداب، ولا أنسى لك أنت تحديداً، عندما أتيتنا قبل 28 سنة، وكنتُ أنا وقتها بعمر ال15 عاماً، ورأيتني في قرية من قرى الدونكان أثناء تجوالكم للدعوة مع والدي وعمي محمد خزائن، كنتُ بتلك القرية أعلّمهم الدين والقرآن، وفوجئت بكم وفرحت كثيراً، وبادرتني بالحديث، بيد أنني تلعثمتُ رغم حفظي لألفية ابن مالك والأجرومية حينها، وخجلتُ كثيرا أن أتحدث، غير أنك شجعتني وقتها، ومدحتني ورفعت من شأني، وطلبتَ مني أن أتحدث كثيراً لأن لغتي العربية جيدة، وحفظتُ لك ذلك الموقف والتوجيه، وانطلقتُ بعدها بما تسمع مني الآن ولله الحمد، فلك كل الشكر على ما وجهتني به”.
بالطبع سرّني ذلك كثيراً، ولم أتذكر الموقف مع الابن محمد، ولربما خبرتي في التعليم هي من ألهمتني لأبثّ في نفس ذلك الفتى حبّ اللغة العربية، ولكن شغفي بأسباب اخفاقه في ترجمة مشاعري طغت عليّ، فأومأتُ له أن يكمل حديثه، فقال: “لغتنا الداغستانية فقيرة في المفردات للأسف الشديد، لذلك عندما تحدثتَ أنت بكل المشاعر التي تفننتَ في التعبير عنها بمفردات شتى، وأطلتَ في حديثك، ترجمتُ لك بما في لغتنا من مفردات تحاكي ما قلت، فعشر مفردات من التي فهتَ بها؛ تعادل مفردة واحدة فقط في لغتنا، نقلتها لوالدتي، وهكذا في بقية حديثك الذي ترجمت، لم أكن أعرف هذا الثراء في اللغة العربية إلا عندما حططتُ رحالي في الأردن للدراسة الجامعية، ذهبتُ هناك وكنت ملمّاً باللغة العربية، وحافظاً لمتون كتب وقواعد اعراب، بيد أنني لم أكُ أتذوقها كما يجب، بما يتذوقها أهلها. أقبلتُ في الأردن على دراسة الأدب العربي، وغصتُ في النصوص الشعرية والنثرية، والمفاجأة أن اللغة العربية أحدثت تغييراً كبيراً في أخلاقي ونمطية تفكيري وتناولي للأمور، ونظرتي للحياة، بسبب أنها تحتوي على معانٍ عميقة جداً وفلسفية، وحكماً تغوص بها في سنن وقوانين الحياة، وتلمّستُ ذلك عبر النصوص الشعرية والنثر، وقبلهما القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فبرغم حفظي لكثير من متون أمهات الكتب إبان الطلب، وأنا فتى على يد علمائنا، إلا أنني اكتشفتُ أنه حفظٌ أجوفٌ فارغٌ سطحي، لم يتعمّق في داخلي وتفكيري، ولم يتحوّل إلى سلوك أبداً، وعندما بدأتُ أتذوق اللغة العربية كأهلها، وأعرف مرامي الحكم والأقوال؛ تأثرت كثيراً، وأحدثت بنفسي تغييراً هائلاً وكبيراً”.
أصغتُ بكثير من الانتباه وبتأثر شديد لما يقوله  الابن محمد الدرقيني، فلأول مرة أسمع عن انسان غيّرته اللغة بالكامل، لدرجة أنه بدأ يخرجُ عن نمطية التفكير للقرية الصغيرة التي ترعرع فيها، وهجرها إلى المدينة الكبيرة، وبات على خلافٍ مع أعمامه في القرية الذين لا يرضون منه أفكاره التي يروم بها تطوير القرية، وطرائق التدريس التي مرّ بها في صغره، ورأى أنها تخرّج أجيالاً حفظة فقط، محدودي الأفق والتفكير، وبالطبع لم يقبلوا منه تلك الأفكار، رغم أنه درس بجامعة عربية محافظة، مكرّرين في القرية ذات الخلاف الأزلي المتوارث في كل المجتمعات المحافظة، في رفض الجديد، وتطويعه بما يتواءم مع قيمنا، وعندما يدور الزمان دورته، يجرف كل أولئك المعارضين الذين يخسرون كثيراً وقد تأخروا وأخرّوا مجتمعهم.
استزدتُ الابن محمد أن يكمل، فسرد لي كثيراً من النصوص الشعرية التي يحفظها، وأردف قائلاً :”القصائد الشعرية التي فيها حكم، إن تذوقها الانسان وتغلغلت في داخله؛ ستحدث تغييراً كبيراً في رؤاه، وتعديلاً في قيمه ومبادئه وسلوكه، فقصائد الامام الشافعي مثلاً -يا أبا أسامة- كنا نحفظها قبلاً -بسبب أننا شوافع- في مدرسة القرية، لكنها لا تترك أيّ أثر في داخلنا، وعندما بدأت أتذوق اللغة العربية وأتشرّبها كأهلها؛ انتبهت للحكم العظيمة التي تحتوي، وتأثرت بها في أخلاقي وسلوكي، وحتى طريقة تفكيري ونظرتي للحياة التي تغيرت، من الأثر الكبير الذي تركته معرفتي باللغة، عكس ما كنت أعيشه قبل أن آتي الأردن، وأدرس هنا، فقد كنت أفكر بلغة فقيرة جداً، والحكم والمعاني في لغتنا الداغستانية ضئيلة، وشتان شتان بينهما، ورغم أنني أجيد اللغة الروسية، وأعترف لها بسعتها، لكنها لا تضاهي أبدا اللغة العربية في معانيها وجمالياتها وبلاغتها وفصاحتها ومفرداتها. تستطيع أنت أن تعبّر عن حالتك الشعورية باللغة العربية بألف بيت من الشعر ولا تتوقف، وتؤلف كتاباً كاملاً، لأن المفردات غزيرة أمامك، ودقيقة بشكل عجيب، تعطيك خيارات أن تعبّر تماماً بما تريد، ولكن لا تستطيع التبحر بلغة أخرى حسب تجربتي”.
استفضتُ في الحديث مع الابن محمد، وسألته عن دراسته في الأردن، وأخبرني عن بحث كتبه عن انتشار اللغة العربية في منطقة داغستان، واطلعت عليه، وفوجئت بأن تلك المنطقة الجبلية التي تقبع خلف أذربيجان وتحاذي جورجيا، تشتهر بتعدد العرقيات واللغات، حتى أنها كانت تسمى جبل اللغات، وبها أكثر من 60 قومية وشعب، وكل قومية لها لهجتها المختلفة بالكامل عن الأخرى، في مساحة جغرافية صغيرة؛ كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في تلك المنطقة في القرن التاسع العشر وبداية القرن العشرين، قبل أن يحاربها الشيوعيون عبر قتل علمائها، وتهجير معلميها، وتجريم من يتحدث بها.
ساق الابن محمد في بحثه، الذي عنونه ب: “انتشار معرفة  اللغة العربية في داغستان في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين”، كثيراً من المعلومات المدهشة عن فشو اللغة العربية هناك، بل ساق رسائل للامام شامل، أمير الشيشان الذي حارب روسيا القيصرية، وكيف كانت خطاباته التي يراسل بها نيقولاي زعيم روسيا القيصرية باللغة العربية، وحثثتُ الابن محمدا أن يكمل هذا البحث، وشجعته أن  يقدمه كرسالة ماجستير، إذ سيتفاجئ أيّ محبٍّ للغة العربية، بمكانتها لدى أولئك القوم، وليس في الداغستان وحسب، بل في عموم منطقة القفقاس الوعرة، المتعددة الثقافات واللغات، وكيف كان يجلُّ القوم هذه اللغة.
عندما استغرقتُ في قراءة البحث؛ عجبتُ للغتنا الخالدة كيف انتشرت بتلك الأصقاع، وكيف جمعت شتات تلك الشعوب المتباينة عرقاً، المختلفة لغة، وكيف كان القوم وقتها يعتبرونها لغة الأدب والفكر والثقافة، ويتدلهون بالحديث بها، بما تفعل أجيالنا اليوم باللغة الانجليزية، تمتمتُ في نفسي بأنها سنن الله في الكون، وودعته وأنا أترنم الأبيات الجميلات عن لغتنا:
لغةُ القرآنِ يا شمسَ الهدى       صانكِ الرحمنُ من كيدِ العدى
هل على وجهِ الثرى من لغةٍ     أحدثتْ في مسمعِ الدهرِ صدى
نحنُ علّمنا بكِ الناسَ الهُدى      وبكِ اخترنا البيانَ المُفردا
وزرعنا بكِ مجداً خالداً          يتحدى الشامخاتِ الخلّدا
فوقَ أجوازِ الفضا أصداؤهُ        وبكِ التاريخ غنّى وشدا.
 

أنحاء

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية