أ. توفيق رباحي
وصلني المقطع المصور لوزيرة خارجية النمسا وهي تجتهد للحديث باللغة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مرارا وتكرارا. من جزائريين أرفق كثيرون منهم الفيديو بعبارات من الحسرة والشعور بالهوان، ومن عرب من جنسيات مختلفة يبحثون عن أبطال غير موجودين بين ظهرانيهم.
عندما يتعلق الأمر بمسألتي اللغة والهوية، الجزائر تصبح «حالة» مثالية للدراسة والبحث بسبب المسخ الخطير الذي تعيشه في هذين الأمرين. في نفس السياق الزماني والمكاني، بينما حاولت الوزيرة النمساوية، كارين كنايسل، الحديث بالعربية التي لا ناقة لها فيها ولا جمل، أصرَّ وزير الخارجية الجزائري عبد القادر مساهل على الحديث بلغة ليست لغته، وليست لغة البلد الذي كان موجوداً فيه، وليست أكثر اللغات انتشاراً في الأمم المتحدة والعالم. بل هي لغة المستعمر الذي ذهب وترك خدَمه من أمثال مساهل.
لو كان مساهل حالة شاذة لهان الموقف وأمكن علاج الأمر. القضية أعمق والمصيبة أخطر وتبدأ من رأس الدولة. قبل مساهل (الذي ألقى كلمته في قاعة شبه مهجورة) بنحو أسبوع زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الجزائر فأحيطت باللغة الفرنسية في لقاءاتها والمؤتمرات الصحافية التي كانت طرفا فيها. كأنها في باريس! لم يحضر بينها وبين مضيفيها الجزائريين مترجم من العربية إلى الألمانية، بل من الألمانية إلى الفرنسية. وقبل زيارة ميركل، عندما كان الرئيس بوتفليقة يصول ويجول بين البلدان والقارات، كان يرافقه مترجمون من الفرنسية إلى لغة البلد الذي يحل فيه! وكان بوتفليقة يتباهى بالحديث بفرنسية تغلفها لكنة الأجنبي المستعمَر، حيثما حل.. لندن، موسكو، فيينا، برلين.. لا فرق، بلا اكتراث وبلا أدنى شعور بالكرامة اللغوية.
تخيلوا إيمانويل ماكرون يزور روسيا أو البرتغال ثم يتحدث لمضيفيه بالألمانية! لا تخطر حتى في الخيال، لأن ماكرون حر متحرر لا يعاني من عقدة لغة وهوية وثقافة وتاريخ. لكنها مع الجزائريين أمر واقع يتكرر بلا انقطاع، لأنهم غارقون في عُقدهم اللغوية والثقافية والتاريخية، ولا يفعلون شيئا للتخلص منها.
وحتى توضع الأشياء في سياقها، ليس وحده بوتفليقة ورجال الحكم من يصرون على استعمال اللغة الفرنسية في عملهم وحياتهم الخاصة والعامة. المجتمع في أغلبه أيضا مريض بعقدة اللغة، بمتعلميه وجهلته، فأصبحت اللغة الفرنسية، وهي في الغالب المطلق مهشَّمة، أفضل وأقرب لقضاء الحوائج من العربية مهما كان مستوى مستعملها.
تتزامن واقعة مساهل التي لا تُشرِّف أي جزائري متوازن، وهي ليست الأولى من هذا الرجل، مع صدور مذكرات السفير الفرنسي السابق بالجزائر، برنار باجولي، الذي من بين ما قال فيها، أن الرئيس جاك شيراك حذره بوضوح وبشدة عشية سفره لاستلام مهامه: «لا تخاطب الجزائريين باللغة العربية. إنهم فرانكوفيليون!». لم تكن وصية شيراك سياسية أو اقتصادية أو أمنية كما يؤمل من رئيس لسفيره الجديد في دولة توصف بالهامة ولبلاده. بل وصية ثقافية لغوية لسفير ملمٌّ بالعربية بحكم ثقافته وعمله الأمني والدبلوماسي. شيراك أوصى من موقف العارف بعُقد النخبة السياسية الجزائرية، من الرئيس (بوتفليقة) نزولا إلى أفشل وزير.
رغم كل هذا، ولسوء حظ فرنسا ولغتها وورثتها وأذنابها في الجزائر، الجزائر ليست فرنكوفونية، وقد فاتها الأوان لأن تكون. والذين يروجون إلى أن الجزائريين مفرنسون، إما جاهلون بالواقع أو مكابرون يعيشون حالة إنكار ترفض تقبل أن الأجيال الجديدة في الجزائر لا تعرف الفرنسية (ولا أي لغة أخرى مع الأسف) ولا تكن أيّ مشاعر خاصة لهذه اللغة الملغومة (وحدها الشعوب التي استعمرتها فرنسا تعاني من اضطرابات لغوية وثقافية وتعيش أزمات هوية).
ومع ذلك، مستقبل اللغة الفرنسية في الجزائر ـ كما في العالم ـ إلى زوال. إنها حتمية تاريخية ومسألة وقت لا غير. سنوات، وربما عقود، معدودة وتبدأ فرنسا تلقي العزاء في موت لغتها في أكثر مستعمراتها خرابا ثقافيا واضطرابا ذهنيا، الجزائر.
لكن النخب المسخ المتحكمة في القرار السياسي والثقافي والإداري ترفض الإقرار بالأمر الواقع، وتصر على منع قطار اللغة من التحرك إلى الأمام حتى لو كانت النتيجة أجيالا هجينة لا تتقن أيّ لغة.. عليَّ وعلى أعدائي. هذا أرحم عند مَن يحنون إلى فرنسا ولغتها في الجزائر، من اندثار الفرنسية.
المستقبل في العالم للغات أخرى، وفي الجزائر للإنجليزية. لن أكشف سراً إن قلت إن الأمريكيين والبريطانيين يعملون بهدوء وثقة على نشر لغتهم وثقافتهم في العمق الجزائري، في العاصمة وبعيدا جدا عنها. بينما تبقى الفرنسية لغة محافل ضيقة ومنغلقة في العاصمة ومدينتين أو ثلاث أخرى في اقصى شمال البلاد. وبحوزتي معلومات عن أن الأمريكيين لا يقلون نشاطا، ثقافيا ولغويا، عن المركز الثقافي الفرنسي، وأن ثقتهم تكبر وتتعزز بعد أن فهموا العقلية الجزائرية وعثروا على أدوات مخاطبتها.
القدس العربي