أ. رابعة الختام
دائما ما أردد على مسامع بعض الأصدقاء والأقرباء في بلاد الغربة، أنجبوا أبناءهم في أرض الجليد، أن لغة الضاد لاجئة تبحث عن لسان يحتضنها في بلاد المهجر والأوجاع، وعلى الأمهات يقع عبء تعليم الصغار اللغة العربية، وتنمية حصيلتهم اللغوية بالقدر الكافي والملائم حتى لا تتوه على ألسنتهم في بلاد لا تعترف بها.
وأكثر ما يحزنني أنهم يوافقون الرأي في أنها بالفعل غريبة، ولم يعد الصغار يتقنون الكتابة بها، بل أضحت لغة البلد الجديد هي لغتهم الأم، نطقا وقراءة وكتابة، حتى التعاملات اليومية في الشارع لسهولة التأقلم المعيشي.
هي نفس المعضلة التي يعاني منها الكثيرون من أبناء الدول العربية في ظل تعليم عربي هش وضعيف وغزو تعليم أجنبي أفقد الأبناء هويتهم العربية بلسان ملتو، ومفردات أجنبية محشورة حشرا وسط الحديث اليومي، فقط لإظهار الرقي والتمدن ومحاولة عرض العضلات اللغوية، بين متعلمين فقدوا القدرة على كتابة خطاب أو رسالة مطولة.
تحدثت إلى قريبي المهاجر إلى بلاد الحسناوات والفطائر، الساكن في قلب مدينة النور، للاطمئنان عليه وعلى زوجته الفرنسية الحسناء وطفليه، وبعد ديباجة الاتصال الأولى والسلام والسؤال أعطاني الطفلين للحديث إليهما مباشرة، فإذا بلسان أجنبي رغم الحرص على زيارة مصر كل عام والبقاء بها مدة طويلة وبعض محاولات متناثرة لتعلم اللغة العربية بلهجتها المصرية.
بضحكة ساخرة سألته: لماذا كل هذا الاغتراب اللغوي، مع حرصك الشديد على محادثتهم بعاميتك المصرية، بادلني الضحكات الساخرة، عوضا عن تعلمهم العربية علموني إتقان الفرنسية التي هي لغتي الثانية بحكم الإقامة والحصول على الجنسية، أصبحت أفكر “فرنساوي”، حتى تلافيف عقلي تجمدت في جليد اللغة المستخدمة في بلاد المعيشة، ولم تعد لغتي الأم تطفو إلا عند زيارة مصر.
الغريب في الأمر أن العرب أنفسهم في بلاد الغربة يتحدثون مع بعضهم البعض بالفرنسية حرصا على إتقانها، ولعل اللافت في الأمر أن الكثيرين تاهت هويتهم بين عربية مهجورة وفرنسية ركيكة، فالكثيرون منهم فشلوا في الحفاظ على الأولى، وفشلوا فشلا ذريعا في اللحاق بالثانية، فأضحت أحاديثهم مبعث سخرية وتندر. هل أضحت ضاد عروبتنا عرجاء في بلاد الغرب؟ هذه البلاد لو سألوا أبناءها عن لغتهم لوجدوا احتراما مدفونا تحت الجلد، صنعته سنوات من غرس مفهوم الهوية الخالصة وغير الملتبسة في أذهان أهله.
في اليوم العالمي للغة العربية، يعتقد بعض العرب أن على الشمس أن تغير مسارها يوم الاحتفال بعيد لغتهم، وعلى الكون وظواهره الطبيعية أن يسجدوا تمجيدا وتهليلا، للاحتفاء بها، وهم أول المفرطين فيها.
المضحك حقا ما يحدث على أرض مصر من تعذيب لكلمات اللغة العربية الفصيحة، أمر مزر بكل المقاييس، فكثيرا من الشباب لا ينطقون كلمة واحدة تشبه اللغة العربية، وإنما ركاكة وهبوط لغوي فج طال الشارع والنادي والمدرسة والجامعة ومقر العمل، وكل مكان، حيث ابتدع الشباب لهجة خاصة بهم، بعيدة كل البعد عن اللغة الحقيقية، حتى باتت مفرداتهم مثل “رجلشة، مهيبر، افتكاسة، موزة، حتة طرية”، وغيرها هي الخطر الحقيقي على هويتنا ولغتنا العربية.
الأم هي المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الأبناء، اللغة والسلوك، والخلق القويم، والقيم والمبادئ وكل شيء، لهذا أضع على عاتق الأمهات، خاصة الشابات منهن مسؤولية استعادة الهوية العربية في الكلام والمأكل والملبس. تتبارى إعلانات المدارس الخاصة ذات المصروفات الباهظة في عرض اللغات التي تعلمها للطفل منذ الصغر، دون ذكر لمدى إتقانه للغة العربية ذاتها.
قيل إن الطفل الغربي يلتحق بالمدرسة وحصيلته اللغوية حوالي 16 ألف كلمة، في حين الطفل العربي يلتحق بلا حصيلة لغوية، خاصة في حالة الاكتفاء باللهجة العامية ومحدوديتها، والاعتماد عليها كليا في طفولته الأولى، واستخدام الأهل للعامية فقط دون الفصحى.
للأسف الشديد أصبحت اللغة العربية تائهة، وعند الطفل لغة جديدة، فبمجرد سماع مفرداتها في سنوات الدراسة الأولى يدرك أنه أمام لغة تطرق باب أذنيه للمرة الأولى.
ويحسب للإمارات حرصها على اللغة العربية بعد موافقة وزراء الثقافة العرب على طلبها بجعل الأول من مارس من كل سنة احتفالا بيوم اللغة العربية مع الاحتفاظ بالتاريخ الذي أعلنته الأمم المتحدة يوما عالميا للغة العربية وهو 18 ديسمبر من كل عام.
الاحتفاء باللغة يتطلب منا أكثر من مجرد دعاية وترويج احتفالي في عيدها، ولكن يتطلب استعادة الهوية العربية، والارتقاء بالتعليم، وتعظيم الاستفادة من القواعد اللغوية الرصينة.
العَرب