للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

راهن اللغة العربية في أوطانها- من المسؤول؟ - 2

د. محي الدين عميمور

إذا كنت توقفت طويلا عند تلك التفاصيل فلكي يتضح أن المسؤول هو غياب الإرادة السياسية الجماعية ونقص الوعي القومي في جل المستويات، فالطبقة السياسية، سلطة ومعارضة، لم تدرك، كما لم يُدرك المجتمع المدني والنخبة المُثقفة، أن اللغة الوطنية، وبالإضافة إلى أنها هي خط الدفاع الأول في ميدان الأمن القومي لأي بلد كان، هي اسمنت الوحدة الوطنية التي تعطي لأي  بلد قوته الحقيقية في مواجهة الآخر والتعامل معه بمنطق الندّية، والتمسك بها هو، في حد ذاته، تجسيد لهيبة الأمة وتعبير عن كرامتها ورمز لمكانتها ودعم لإرادتها عندما تتصارع الإرادات الدولية.
 ولم يتوقف من بيدهم القرار التنفيذي عند الصور التي يقدمها دائما وزراء العالم المتقدم، بل وغالبا المُتخلف، ومسؤولوه في التعامل مع لغاتهم الوطنية، والذي وصل أحيانا إلى تجاوزات قد تكون محل مؤاخذة ديبلوماسية، ولكن نتائجها كانت دائما تقديرا متزايدا لمن يحرص على التعامل بلغته الوطنية ولا يتشدق بغيرها، خصوصا إذا لم يكن يتقنها.
ولا أنكر أن مأساة اللغة العربية، كلغة وطنية ورسمية، ليست احتكارا للجزائر وحدها، بل إن أقطارا عربية متعددة تعاني صورا مختلفة من الاستهانة باللغة الوطنية، ويمكن القول بأن العديد من عواصمنا تعيش تلوثا لغويا يأخذ أشكالا متعددة، فقد يكون خليطا هجينا يشبه "الشكشوكة" اللغوية التي تجترها جموعنا، ويستعملها، بكل أسف، أساتذة جامعيون بل وسياسيون عبر البرامج المُتلفزة، وقد يكون تلوثا شبه كامل بلغة أجنبية يفرضه الخدم الوافدون على أطفال البلاد الذين يُكلفون برعايتهم في غياب الأم، وربما مع أشكال أخرى من التلوث الأخلاقي، وقد يكون غزوا واضحا يتعرض له أبناؤنا في المدارس الأجنبية التي تسربت إلى العديد من الأقطار، وغالبا نتيجة لنشوء رأسماليات طفيلية، عبّر عنها توفيق الحكيم بأنها تمثل "انتفاخ الجيوب وفراغ العقول"، وهي فئات مُترفة إلى حد السفه، استغلت ثغرات التنمية الوطنية والكفاءة المحدودة للقائمين عليها كما استفادت من وضعية الإرهاب الإجرامي، ولا أعرف على وجه التحديد دورها في اندلاع ناره، وتحالفت مع مراكز نفوذ مستفيدة من المستنقع السياسي الذي ألقينا فيه أو انزلقنا إليه، لكي تفرض، بجهلها وجاهليتها، الثقافة التي تتناسب مع مستواها الفكري، حتى في مجال الفنون بكل أنواعها، وهي التي تشجع النضال  !!العقائريّ لأمثال الشابة "الشهوانية"، وتروج للأغاني "الفِراشية" من أمثال "بُوس الواوا" أو "قول لي وين ترقد".
ولكيلا يبدو حديثي تلذذا بالبكاء على الأطلال، سأتوقف عند الأسباب التي وصلت بنا إلى هذا الوضع، لأن تقرير الواقع الذي يتلوه التشخيص الصحيح هو الطريق نحو العلاج الناجع.
وأتصور أن المرض الرئيسي الذي يعاني منه الوضع الثقافي العربي، فكرا ولغة وممارسة سيادية، هو تعدد مناهج التعليم في الوطن العربي بتأثير إقليمية مَرَضيّة تطلِق على العملية ألقاب مملكة في غير موضعها، فهي جزأرة وسعودة ولبننة وتونسة وما إلى ذلك.
وكان من المتوقع، على ضوء ما أفاء الله به على الوطن العربي من ثروات هائلة، أن ينعكس هذا على واقع التعليم والتكوين، فنجد تطورا في الكتب والبرامج الموجهة للكبار وللصغار على حد سواء، لتتمكن من اجتذاب القارئ بكل الوسائل التقنية التي وفرها التطور العلمي، ولكن المؤسف أن ما حدث هو تصاعد النزعة الشوفينية التي هيّجها الدخل المالي المُرتفع، ومتاجرة بعض رجال التعليم بالمعرفة، وبغض النظر عن نوعية المادة المُقدمة للمُتمدرس وشكلها وأسلوبها، مقارنة بما تقدمه اللغات الأخرى للباحثين عن التفوق فيها.
وأصبح لكل بلد كتبُه التعليمية الخاصة به، وكان معظمها، خصوصا في البلدان ذات الكثافة السكانية المرتفعة، إنجازات متخلفة لا تشجع الطالب على الدراسة ولا تحبب المواطن في القراءة، وإلى هذا يعود حجم كبير من السقوط الرهيب للتعليم، ثم للتربية.
ولتوضيح أبعاد الأمر أدعو لإلقاء نظرة سريعة على واقع الثقافة الفرنسية، لنجد أن المُتمدرس الفرنسي يتلقى نفس المنهج في نفس المدرسة ومن نفس الكتاب وبنفس الأسلوب، سواء كان ذلك في باريس أو واغادوغو أو مونريال أو سيدني أو نجامينا، وهكذا تنتج المدرسة الفرنسية مثقفين يتمتعون بالانسجام الكامل الذي يحقق وحدة الفكر، مع تعدد التفكير، وتوافق الرؤية بغض النظر عن اختلاف المنطلقات، كما يضمن النظرة الإستراتيجية الواحدة بدون تناقض مع الممارسات التاكتيكية المتغيرة، ليصبح الجميع جنودا في جبهة "الفرانكفونية".
فعندما يرتبط الإنسان بلغة ما تصبح هذه جزءا من حياته، لأنها تحدد الصحيفة التي يقرأها وبرنامج التلفزة السياسي أو الثقافي الذي يُتابعه، وربما الفيلم السينيمائي أو حتى الاستعراض الغنائي الذي ينسجم معه، وشيئا فشيئا تدفعه، بدون أن يشعر، إلى تبني نظرة معينة تقدم بتلك اللغة، قد تكون اجتماعية أو اقتصادية، وقد تصبح اتجاها سياسيا يحمل خلفيات نجحت مخابر مختصة في إعدادها ليشربها مُستهلك حسن النية خالي الذهن.
 والقوم هناك لا يلعبون، وابتسامتهم يجب أن تذكرنا ببيت الشعر المشهور عن ابتسامة الليث، ومن هنا أشرت إلى أن اللغة هي من أهم عناصر الأمن القومي لأي شعب ولأي أمة.
وسنفترض، جدلا، حدوث تناقض سياسي بين الجزائر وفرنسا، فإن من المنطقي أن من يرتبطون بالمصادر الإعلامية الفرنسية، سيكونون بعيدين، إلى حد كبير، عن تفهم المنطق الجزائري في التعامل مع الأمر، خصوصا في غياب مؤسسات وطنية تمدهم بالأساسي من المعلومات، وفي سيطرة إعلام وطني يخلط بين الخبر والتعليق، ولا يتابعه إلا العاجز عن متابعة القنوات الأجنبية أو الباحث عن أمر مُعين قد يكون ما ارتكبه هو من تحركات.
وهكذا تتحدد صياغة مواقف أولئك تجاه بلادهم أو تتأثر بعض جوانبها.
وهنا يأتي سبب آخر في حدوث الخلل الذي أصاب وضعية اللغة العربية، وهو ما ابتليت به مسيرة الفكر القومي العربي نتيجة لسلسلة الأخطاء والعثرات التي أصابت المشروع القومي العربي، والذي تأثر في بداياته بما سُمي ثورة عربية كبرى، وهي عملية مخابراتية بريطانية كلف بها ّلورنس" في مطلع القرن الماضي للإجهاز على الإمبراطورية العثمانية، وفتح الطريق أمام الجنرال "ألِنبي" لدخول القدس، واستكمال تحقيق وعد "بالفور".
وهكذا أخذ تعبير الفكر القومي مع نهايات القرن الماضي معنى قدحيا، أو أعطيَ ذلك، وهو ما أحسنت استغلاله مؤامرات الاستعمار القديم المتواصلة وأطماع الاحتكارات الدولية المتنامية، بالإضافة إلى قنابل موقوتة جسدتها شرائح القوة الثالثة التي كان المستعمر السابق قد أعدها لتضمن وجوده المستقبلي، وكنت أطلقتُ عليهم في الثمانينيات صفة "الطلقاء"، بكل ما تعنيه وتدل عليه.
وفي ظروف لا أريد أن أتوقف عندها حدث الشرخ بين الفكر القومي والتيار الديني، والإسلامي على وجه الخصوص، حيث أن المسيحيين في شمال المشرق كانوا جزءا من الحركة القومية التي رأوها علمانية تنسجم مع شعار: "الدين لله والوطن للجميع" الذي رُفع في مصر آنذاك.
وراح كلٌّ يُحمّل الآخر مسؤولية الانهيار الشامل لحال الأمة، ولم يُدرك أيّ من الذين يجسدون الفكر القومي والذين يرفعون اللواء الإسلامي أنهما جناحان لطائر واحد، وأن الوطنية الحقة لها، كالعملة المعدنية، وجهان، واحدٌ قومي وآخرَ ديني، وأن الممارسة الدينية التي لا ترتبط بأرضها وقومها وتاريخها هي سباحة في الهواء، والمولى عز وجل يقول لنبيه الكريم : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها"، لأنه تعالى كان يعرف حب سيد المرسلين، لبلده، لأم القرى.
ومن جهة أخرى فإن الفكر القومي بدون انتماء روحاني يضمنه الدين وطاقة روحية يُوفرها الإيمان بالله واليوم الآخر هو إبحار بلا بوصلة في بحر لُجّيْ تتشنج أمواجه، وتحت سماء غائمة لا تظهر فيها نجوم وعبْر ضباب يحجب كل الآفاق.
والفكر القومي بدون لغة قومية هو كائن يفتقد كل الحواس، وبالتالي فإنه يفقد صفة الفكر.

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية