د. هند عبدالحليم محفوظ
ظلت اللغة العربية لغة الدراسة بطب القصر العيني الذي يعد – بحق – بيت الطب العربي الحديث، وظل الأساتذة يؤلفون كتبهم الطبية بالعربية، إلى ما بعد الاحتلال البريطاني حوالي عشرين عاماً كاملة، وكان يضم بين صفوفه طلبة من العرب، وبخاصة من سوريا ولبنان، منهم في عهد محمد علي: يوسف أسطفان، وغالب الخوري العقلني، والجراح النجار، ويوسف الجلخ، ويوسف لطيف، وسليم ملوك، وفي عصر الخديوي اسماعيل: فارس نجم، والشيخ شيبان الخان، ميلاد صغير، وغبراهيم صافي وسليمان أبو التحول ، ثم شاكر الخوري، وإليال المرو، ونقولا لويس.
وقد أصبح هؤلاء المرجع الطبي لأبناء سوريا ولبنان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ولكن اللورد كرومر (المعتمد البريطاني في مصر)، ظل يضيق الخناق على مدرسة طب القصر العيني حتى تراجع عدد الطلاب بها إلى أقل من ثلاثين طالباً.
وعلى الرغم من أن مدرسة طب القصر العيني قامت على البعثات العلمية إلى أوروبا، فإن تدريس الطب بها كان باللغة العربية، بناء على نظرية كلوت بك (أنطوان برتسيلي كلوت) الذي كتب إلى محمد علي باشا والي مصر يقول: "إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة ، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه".
وياليتنا الآن نفكر كما فكر كلوت بك الفرنسي منذ مائة وسبعين عاماً! ولكي يحقق كلوت بك رؤيته تلك، ألحق المترجمين بمدرسة الطب، واعتبرهم طلاباً بها، وألحق معهم مائة طالب اختيروا من الأزهر الشريف، وكان من هؤلاء التراجمة المسيو أنهوري، والمسيو رفائيل، اللذان ساعدا بكفاءة نادرة على ترجمة مؤلفات عديدة.
وفي عهد رئاسة كلوت بك عرّب الأساتذة المصريون 86 مرجعاً طبياً عن الفرنسية، وبذلك تكونت أول مكتبة عربية، وكانت تعد أكبر مكتبة طبية – في العالم – ترجمت من لغة إلى لغة أخرى آنذاك.
ولم ترق فكرة تعليم الطب باللغة العربية لفريق كبير من الأجانب حتى إن بارون دي بواسليكوم الذي بعثته الحكومة الفرنسية لدراسة حال مدرسة الطب المصرية كتب يقول: "إن مدارس الطب والصيدلة، وفن البيطرة والكيمياء مكونة تماماً من عرب، والمسيو كلوت يحاول أن يعطي تلاميذه روحاً وطنية عربية، ولا أعرف هل يستحق التأنيب أو التشجيع".
وظل التعليم باللغة العربية حتى اكتملت المؤامرة في العام 1903 عندما أصدر اللورد كرومر قراره باستبدال اللغة الإنجليزية باللغة العربية العريقة.
ولا مبالغة في القول بأن ما حدث في مصر إبان الاستعمار البريطاني، حدث مثله في البلاد العربية التي ابتليت به، من محاولات "الجلنزة" والقضاء على الهوية، وكذلك ما حدث في بلادنا العربية التي منيت ببلاء الاحتلال الفرنسي، ومحاولة "فرنسة" هذه البلاد، لولا كفاح أهلنا في كل مكان، وتشبثهم بأصالتهم، واستماتتهم في الدفاع عن كيانهم وثقافتهم ولغتهم، وإن كانت هناك ندوب ماثلة تحتاج إلى دواء.
وهناك جهود مشكورة من أهل العلم والمفكرين، والمثقفين في مجال تعريب الطب والمصطلحات العلمية والحديث عنها معاد. فيقول الدكتور عبدالله قرناضي رئيس المجلس الأعلى للغة العربية سابقا بالجزائر: "اتصل بنا مجموعة من الأطباء الجزائرين الشباب، وأبدو رغبة عارمة في تدريس الطب باللغة العربية التي كنا نريد أن يقع الابتداء بالتعريب السنة الأولى ثم الثانية إلى آخر المسار الدراسي .. ولكن مسألة تعريب الطب خصوصاً في الجزائر، وفي العالم العربي كله – باستثناء سوريا – هي مسألة سياسية لا لغوية".
أي أن العرب بعد إنجازات الرازي (864 – 932) ، وابن سينا (980- 1037)، وابن رشد (1126 – 1198) ، والزهراوي (1030- 1106) وغيرهم من الاطباء الخالدين الذين أعطوا الإنسانية ما أعطوا – أصبحوا في حيرة بالغة أمام ما وصل إليه أحفادهم الذين يعيشون مرحلة تاريخية غير مواتية.
فقد ظهر للعرب خصم جديد داهية يعمد إلى الحرب السافرة تارة، وإلى الحرب المحجبة تارة أخرى، يسعى بكل الطرق إلى أن يفرق بين الأجناس التي تقيم في هذه المنطقة من عرب وأكراد وبربر.. وبين الأديان التي تحيا فيها من مسلمين ومسيحيين وغير موحدين، بل بين المذاهب الدينية المختلفة من سنة وشيعة ودروز .. إلخ، ومن بروتستانت وأرثوذكس وكاثوليك .. فالعرب إذن هدف قضايا عدة وليست قضية واحدة .. كذلك ليست القضية قضية العربية التي كانت في يوم من الأيام لغة العلم والأدب والفن، لا يعرف العالم لهذه المعارف غيرها. ويسعى الخصم اليوم جاهداً لمحوها من الوجود، مشبهاً إياها باللاتينية، وما أنجبته من لغات إيطالية وفرنسية وإسبانية.
ولما كان الخصم حدد هدفه، وأعد عدده وفوجيء بصعوبة مراده إن لم يكن باستحالته، فقد اتخذ جيشاً من العرب أنفسهم الذين خدعهم بتقدمه، وأغراهم بازدهاره، وأقنعهم بوجوب استخدام غير العربية في العلم (بل في الحياة) حفاظاً على الصلات بينهم وبين التقدم العلمي والحضاري، التي يبترها استعمال العربية. فعدلوا عن تعليم العلوم في المعاهد بالعربية – كما كان الحال – إلى الإنجليزية، ثم جعلوا التعليم العام كله بالإنجليزية، واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن حصلت مصر على قسط من الاستقلال، فردت التعليم العام إلى العربية.
ولو نظرنا إلى الشعوب ذات الشخصية القومية التي لم تعصف بها عاصفة "التغريب" لكفانا واعظاً، فاليابانيون والصينيون أتراهم يعلمون الطب بالإنجليزية؟! ثم الألمان والفرنسيون، أيعلمونه بالإنجليزية أيضا؟! الأطباء الصينيون العاملون في البلاد العربية لا يقرأون لغة غير لغتهم الصينية، ويلزمون الجهات الطبية المحتاجة لخدماتهم بإحضار مترجمين ليتم التفاهم بينهم وبين المرضى، ترى أيريد الطبيب العربي مترجماً مثله وهو يعالج إخوته وبني جلدته؟!
ولكن كيف يمكن تطبيق هذه الآمال العريضة وتنفيذها؟
الإجابة عن هذا التساؤل تتركز حول ممارسة التدريس الجامعي في الكليات العلمية، والبحث العلمي، والتأليف باللغة العربية، التي تعد هي السبيل الوحيد الذي يمكننا من تنفيذ تعريب العلم في الوطن العربي بأسره.
وعند الممارسة العديد من المشكلات التي يجب أن ندرسها ونحللها مسبقاً كي نضع لها الحلول المناسبة لإمكاناتنا ومواردنا البشرية والمادية والتقنية، وأولى هذه المشكلات هي اللغة من حيث كونها وسيلة للطالب في التلقي والاستيعاب والتعبير، بل وفي التفكير والتصور أيضاً، فلا يجب أن نكبل هذه اللغة بقيود تحد من نشاطها واستمرار التعليم بها، وأهم هذه القيود المصطلحات العلمية التي تتسم في معظمها بالعالمية، حتى كادت تكون متماثلة في كل اللغات الحية، فيمكن لنا الإبقاء على المصطلح باللغة التي وضع بها حتى نتفق فيما بيننا على مقابل له باللغة العربية، ويمكن استخدامه في المحافل العلمية المختلفة.
أيضا كثرة هذه المصطلحات العلمية الحديثة تعد قيداً آخر، يمكن أن تكبل جهودنا في النهوض بالمستوى العلمي في مؤسساتنا العلمية والتطبيقية، ولذا وجب التخطيط لاستيعاب هذا الكم الهائل المتدفق علينا باستمرار حتى يمكن التعامل معه والاستفادة بأقصى حد ممكن. كذلك هناك مشكلة تتعلق بالأساتذة الذين لهم الدور الرئيس والمحوري في قضية التعليم، فمعظمهم لا يعرف شيئاً عن المعاجم اللغوية العربية، بل ولم تسنح لهم الفرصة للاطلاع على المصطلحات العلمية في تراثنا العلمي العربي، سواء ما كان منها عربياً أصيلاً أم دخيلاً ومعرباً. بالإضافة إلى مشكلة الإدارة السياسية وقضية الاتفاق على أسلوب صياغة المصطلح العلمي العربي وتوحيده وتداوله بين الباحثين والعلماء والمفكرين بين أبناء الأمة، ثم الالتزام بهذه المصطلحات حتى تكون هناك لغة علمية عربية.
والخلاصة أن معظم المشكلات ليست نابعة من ذات اللغة العربية ومدى قدرتها على استيعاب كل ما هو جديد وحديث في مختلف جوانب العلم وتخصصاته، فتراثنا وتاريخنا يشهدان على أن اللغة العربية قد استوعبت كل ما هو جديد على مر العصور عندما كان العلم يتكلم بالعربية.
ميدل ايست أونلاين