أ. سعيد يقطين
ما الذي يجعل الثقافة الحديثة غربية الأسس والتوجهات؟ وما موقع الثقافة العربية ضمن الثقافة الحديثة؟ يفرض هذان السؤالان نفسيهما كلما عاينا التطور الذي تعرفه الثقافة الغربية، وما تحققه من إنتاجات متواصلة، ولمسنا النكوص والتراجع، بل والجمود الذي تعيشه الثقافة العربية في مختلف مجالاتها. يبدو تطور الثقافة الغربية المعاصرة فيما يتحقق على المستوى العلمي والمعرفي والتكنولوجي من إنجازات تسهم في تأمين حياة كريمة للمواطنين على المستوى المحلي، وفي ممارسة المزيد من بسط السلطة وفرض الهيمنة على المستوى الخارجي. كما يبرز نكوص الثقافة العربية وتراجعها في عدم قدرتها على مواكبة المستجدات العلمية والتكنولوجية، والانخراط فيها بشكل يؤهلها لضمان الأمن والكرامة لمواطنيها، ولاحتلال موقع يجنبها من أن تظل موضوعا للسيطرة عليها، وتوجيهها حسب الرغبات والمصالح، من لدن من يمتلك ثقافة العصر الذي نعيش فيه.
لا أحد يجادل اليوم في أن مستوى تطور الأمم والشعوب رهين بمستوى التعليم ومدى قدرته على التجاوب مع ما يفرضه العصر. ولا أدل على ذلك من أننا نجد الفرق بين الأمم الغربية نفسها يتحقق اليوم في ضوء تطور منظومتها التربوية والتعليمية. ويكفي أن ننظر في الفرق بين أمريكا وفرنسا، على سبيل المثال، على مستوى ما يعرفه التعليم فيهما، لتأكيد ذلك. لكن ما يحدث في الدول الغربية نجده كامنا في كون الدول التي تعثرت مسيرتها في تطوير نظامها التعليمي تعمل جاهدة على تدارك ما فاتها من أجل اللحاق بالركب مستفيدة من تجارب دول أخرى، والمجهودات الفرنسية المبذولة في هذا المضمار تؤشر على ذلك. لكن الأمر مختلف عندنا عربيا. فالكل بات يعترف بضعف التعليم العربي وضعف مردوديته. صار الكل يسعى لإصلاح منظومته التربوية، ولكن بدون تحقيق أي تطور عملي يعكس بالفعل إرادة حقيقية في الإصلاح والتطوير، والمثال المغربي دال على ذلك. فمنذ الاستقلال، وحتى اليوم، وعمليات التفكير في الإصلاح متواصلة، ولكنها في كل الأحوال لم تؤد إلا إلى المزيد من النكوص والتراجع.
فما الذي يجعل إصلاح منظومة التعليم في الوطن العربي أشبه بالمستحيلة، وتدور في حلقات مفرغة؟ هل يتعلق الأمر بغياب سياسة تعليمية وتربوية؟ أم بسوء التدبير وفساد الإدارة وضعف الإرادة؟ أم بالتبعية لتجارب معينة لأسباب لا علاقة لها بالإصلاح؟ أسئلة كثيرة يطرحها المختصون من مجالات متعددة حول تعقد الظاهرة التعليمية. وبات الجميع على إدراك تام بأن واقع التعليم يفرض نفسه بإلحاح، ولا سيما بعد أن اعتبر الوطن العربي بؤرة لتفريخ الإرهاب على المستوى العالمي؟ لا شك في أن للسياسات المتعاقبة والتي اعتمدت عربيا على المستوى التعليمي دخلا كبيرا في ما جرى، ويجري حتى الآن.
يمكن أن تتعدد الأسباب والنتائج التي تطبع التعليم العربي بكل السمات التي يمكن تقديمها لتفسير أو تبرير التخلف العلمي والمعرفي والتكنولوجي الذي يشهده الوطن العربي. إن كل دولة عربية تواجه القضايا التعليمية والمشاكل نفسها بكيفية مستقلة عن أي دولة عربية أخرى. وغياب التنسيق والاستفادة من التجارب العربية، سلبا أو إيجابا، لا يمكنه إلا أن يفتح المجال أمام كل دولة عربية لتجد نفسها أمام ضرورة الاستعانة بنموذج من النماذج الغربية، وتجريبه أملا في الخروج من النفق؟ وهذا واقع لا يختلف فيه اثنان، ولذلك نجد التجارب التعليمية العربية يحاول كل منها استنساخ تجربة غربية ما.
إن التفكير العربي الجماعي في المسألة التعليمية هو الكفيل بتجاوز التجريب الذي ظل يطبع محاولات الإصلاح غير الموفقة. فما هي مداخل هذا التفكير العربي الموحد في التعليم؟ يوجد في الوطن العربي خبراء وعلماء ومختصون في المجال التربوي والتعليمي يمكنهم المساهمة في وضع ملامح تعليم عربي موحد كفيل بجعله يرقى إلى المستوى العالمي. وبدون التفكير العربي ـ العربي في المسألة التعليمية بهاجس الارتقاء بها إلى المطلوب لا يمكن التطور أبدا مهما بدا لنا من إمكان نجاعة تطبيق نماذج غربية ما.
يسمح التفكير في توحيد المشروع التعليمي والتربوي العربي بتطوير السياسة التعليمية وجعلها قادرة على الإجابة عن الأسئلة التي تهم تطور المجتمع العربي ليصبح فاعلا ومتفاعلا مع العصر بشكل إيجابي، ومنتجا لقيم علمية ومعرفية وتكنولوجية تسهم في تطوير الإنسان المعاصر. إن توحيد المشروع التعليمي العربي توحيد لرؤية عربية للمستقبل.
يمكننا الانطلاق من تجربة الغرب في تعامله مع التعليم باعتباره رؤية وثقافة ونقارنها بما مارسناه في العصر الحديث ليظهر لنا الفرق بين المسارين. إن ما يوحد الغرب، رغم تعدد لغاته الوطنية، يعود إلى اعتماده خلفية معرفية قديمة هي الأرسطية. وشفعها في العصر الحديث بديكارت وتبني الفكر العلمي. من هذه الأسس بنى توجهه نحو المستقبل. في الوطن العربي نجد لنا تراثا واحدا، ولغة موحدة، وجغرافيات محلية. فلم نعمل على توحيد جهودنا لرؤية العالم بالطريقة الملائمة للعصر. بقينا أسيري الصراع بين أنصار التراث، وأعداء التراث، والأصالة والمعاصرة؟ وفي حمأة هذه الانشغالات لم نحدد ما هو التراث، ولا ما هي اللغة؟ ولا ما هي الثقافة الحديثة؟ لا مراء في أن الغرب عرف بدوره نقاشات حول مثل القضايا التي انشغل بها العرب. لكن رجحان توحيد الأسس الفكرية في الغرب شكل أساس وحدته المعرفية، والعلمية، ولم تؤد الاختلافات اللغوية، والدينية والتاريخية إلى فرض نفسها عليه لأن كل التوجهات التي كانت تصب في المستقبل بدءا من عصر النهضة في إيطاليا حتى الثورة الفرنسية كانت تستقطب الأحلام، وتدفع إلى التفكير في فتح الآفاق نحو الأمام.
كانت مصر رائدة في المجال العربي الحديث، وكان بإمكانها لعب دور المحرك المركزي للتحول العربي. ساهمت في مرحلة أولى في القيام بهذا الدور، ولكنه توقف، ولم تلعبه أي دولة عربية أخرى بعد ذلك، فبقيت كلها تدور في أفلاك متعددة. فلم تتطور اللغة العربية، ولا دراسة التراث العربي، ولا الثقافة الحديثة. فكيف يمكننا الحديث عن وحدة التراث، ووحدة اللغة، وكل دولة عربية تنظر إلى اللغة والتراث نظرة خاصة تختلف عما هو مطروح في بلد عربي آخر؟ وكيف يمكننا الحديث عن تعليم عربي يمكن أن يكون عاملا من عوامل التطور، ونحن ما زلنا نتجادل عن لغة التعليم؟ وكيف يمكننا المساهمة في الثقافة العلمية الحديثة والمعاصرة، ونحن بعداء عن تمثل روح العصر.
إن النقاشات المختلفة حول المسألة التعليمية في الوطن العربي ما تزال تركز بالدرجة الأولى والأخيرة على جوانب شكلية وسطحية، ولم تذهب قط إلى المضمون أو العمق. مشكلة التعليم ليست تقنية يكفي استبدال عنصر مكان آخر لتحل المشكلة. فكم من الميزانيات تصرف ولا تستفيد منها سوى المقاولات التي لا يهمها إصلاح التعليم. إننا لا نجيب على أسئلة تتعلق بالإنسان الذي نريده من التعليم؟ هل نريد المواطن الذي يفكر، ويبدع، أم نريد تكوين التقني والموظف الذي يطبق؟ هذا السؤال المزدوج يمكن أن يطرح ليس على السياسة التعليمية القطرية فقط، ولكن أيضا على من يقف وراء فرض تلك السياسة من الخارج: هل يريد الغرب أن يكون تعليمنا العربي في مستوى تعليمه؟
ضرورة التفكير في تعليم عربي موحد يمكن أن يكون مفتاحا لخلق الإنسان العربي الجديد.
القدس العربي