للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

روعة اللغة العربية - 5

أ. د. يحيى صالح دحامي

 وتستمر سفينة اللغة العربية في شق عباب بحر الشاعر عروة بن الورد العبسي، وهو من الشعراء الفرسان المعدودين ومن الأجواد وأمير الصعاليك النبلاء وقائدهم، ذلك الصعلوك النبيل الشهم والفارس الشجاع الذي رسم  لنا في بعض أشعاره صورتين مختلفتين لنوعين متناقضين من الصعاليك، يصف الأول بأنه ذلك الفرد السلبي الضعيف الذي هو أقرب إلى اللص من غيره وأعماله تتصف بالدونية، وفي المقابل نتذكر النوع الثاني من الصعاليك الذي صفيحة وجهه مشرقة ناصعة وأعماله هي أعمال النبلاء بالرغم من أنها تنطوي على الإغارة والغزو وسلب الأشحاء من الأغنياء الذين، بجشعهم، يرفضون مشاركة الفقراء ببعض مما يسد رمقهم، نتحول الان إلى سبر غور عدد من الابيات الشعرية عند عروة والذي يقول فيها:

  
أرقت وصحبتي بمضيق عمق لبرق من تهامة مستطير
سقى سلمى، وأين ديار سلمى إذا كانت مجاورة السدير
إذا حلت بأرض بني علي وأهلي بين زامرة وكير
ذكرت منازلاً من أم وهب محل الحي أسفل من ثبير
وأحدث معهد من أم وهب معرسنا بدار بني النضير
وقالوا: ما تشاء؟ فقلت: ألهو إلى الإصباح آثر ذي أثير
بآنسة الحديث رضاب فيها بعيد النوم كالعنب العصير

هذه الأبيات تستلزم الاسترشاد بما وثّقه لنا ابن منقذ، فيما نقله عن أبو عمر الشيباني، في كتابه المنازل والديار الذي يذكر فيها قصة سلمى الكنانية وكنيتها أم وهب، وكان عروة بن الورد قد أغار على قومها فأصابها منهم، وكانت بكراً فأعتقها واتخذها لنفسهِ، فمكثت عنده بضع عشرة سنة، وولدت له عدد من الأولاد، كان مقبولاً في ذلك الزمن أن يتخذ الفرسان من سباياهم زوجات بعد أن يحرروهن من كونهن سبايا أو أسيرات، وقبل الإسهاب فيما نقل ابن منقذ نستهدي بما أشار إليه ريموند فِرّن في كتابه (Abundance from the Desert: Classical Arabic Poetry, 2011) حيث يقول ’كان هناك العديد من الحالات في السجل الشعري للأزواج الذين يستجيبون لزوجاتهم بشأن هذا الموضوع، كان الشاعر عروة بن الورد، الذي عاش في فترة ما قبل الإسلام، أحد هؤلاء الأزواج الذين اتخذوا من أسيراتهم زوجات‘، بالطبع بعد أن أعتقها.
وتفسير الأبيات أن عروة بن الورد أحرز من كنانة فتاة بكراً يقال لها سلمى وتُكنى أم وهبٍ، ولجمالها وأخلاقها وعفتها أعتقها لكنه اتخذها لنفسه زوجة فلبثت معه بضع عشرة سنة وولدت له أولادا حتى أيقن أنها أرغب الناس له وأكثرهم شوقاً له، فلما قضت معه كل ذلك الوقت طلبت منه أن يصحبها للحج معه قائلتاً: لو حججت بي فأمر على أهلي وأراهم، فوافق ثم حج بها وأتى مكة وبعد ذلك أتى المدينة، وكان يعاشر من أهل يثرب يهود بني النضير فيقرضونه المال إذا اقتضى أمره ويبايعهم إن كسب، وكان قوم امرأته يخالطون بني النضير أيضا، فأتوهم وهو عندهم وكانت سلمى قد رتبت لبعض قومها خطتها وقالت لهم أنه خارجٌ بها قبل الشهر الحرام، فتعالوا إليه واعلموه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم مشهورة الأصل سبية، وافتدوني منه فإنه لا يرى أني أبارحه ولا أنتقي عليه أحدا، فأتوه وزادوا في سقياه الخمر حتى ثمل فقالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها رفيعة النسب فينا، وإنها علينا عار أن تكون سبية فاذا أضحت فينا وابتغيت معاودتها فاطلبها فإنا نزوجكها، فقال لهم: ذلك لكم لكن لي مطلب وهو أن تخيّروها فإن اصطفتني انطلقت معي إلى داري وأولادها وإن اصطفتكم انطلقتم بها فقالوا ذلك لك، قال: دعوني الهو الليلة وأشرب واتسلى، فلما كان صباح اليوم التالي جاءوه، فرفض فدائها كما وعدهم فقالوا له: قد فاديتها منذ البارحة وشهد عليه رهط ممن حضر معه وكان معه طلق وجبار أخوه وابن عمه، فلم يستطيع الامتناع وفادوها وهنا تتجلى شهامة العربي إذا قال شيء أوفى به، وإنما امتناع عروة كان على حق حيث أنه، حال افتدائها، أمسى لا يعي ما يقال نتيجة لإفراطه في الشراب الذي أسقوه.
وحينما خيروها اصطفت أهلها ثم أقبلت عليه وقالت له: "يا عروة. أما إني أقول فيك - وإن فارقتك - الحق: والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، أغض طرفاً، وأقل فحشاً، وأعوذ يداً، وأحمى لحقيقة، وما مر عَليَّ يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إليَّ من الحياة بين قومك، لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: أمة عروة وكذا وكذا، إلا سمعته، والله لا أنظر في وجه غطفانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك، وأحسن إليهم".
والظاهر أن رد هذه المرأة على عروة بتفضيل أهلها من الممكن أنه لا يخدم السياق الذي اراده الشاعر فقد هربت من إذلال نساء قومه وتعييرها بالسبي والأسر ولم يعدها الى أهلها حبهم وحده، ويمكن القول أيضاً أن سلمى الكنانية أحسّت بنوع من المشقة والأسى خصوصاً من نساء قومه اللائي ما انفكين يطلقن عليها لقب أمة أو سبية، ومن المحتمل أن سلمى كظمت كل ما تشعره من المرارة والوجع والأسى، وأنها لم تلمح لعروة أيٌ من ذلك لكي لا يرتاب فيها، وتتحين الفرصة للفكاك مما هي فيه.
الأبيات أعلاه يتحسر فيها عروة بن الورد على سلمى، سبيته التي اتخذها زوجة، واستمر عروة يذكر ويتذكر سلمى وخصوصية هذا الحدث ويبدي ندمه على فراقه له، وروعة الأبيات في هذا المقال أنها تسجل وصفاً مؤثراً جميلاً لحبكة قرينته الحادثة لتنتهي بتلك الطريقة التي تبرز شعوره وإحساسه نحوها وندمه وأسفه لفراقها، وروعة عروة بن الورد أنه جعل الأبيات تحكي قصة بأحداث وشخصيات وحوار مليئة بالعواطف والأحاسيس والندم على فراق  قد يكون الأخير ولا رجعة فيه، ومما يجدر الإشارة اليه أن عروة بن الورد الشاعر والفارس كان أيضاً عارفاً وملماً بتاريخ وأسماء الأماكن في الجزيرة العربية التي اعتاد أن يتنقل إليها في غزواته وغاراته وأيضا ما يسمعه من أقرانه الشعراء ومثل ذلك المؤرخين والناقلين للسّير والأحداث.
لمزيد من الشرح حول هذه الأبيات فيما يخص الأحداث والأماكن ينظر في كتاب الجبال والأمكنة والمياه للزمخشري 1999، شرح ديوان عروة لابن السكين 1926، كتاب المنازل والديار لابن منقذ 1992، وكتاب الأغاني للأصفهاني، الجزء الثالث 2008.
يتبع 6
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية