للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

روعة اللغة العربية - 7

أ. د. يحيى صالح دحامي

 

تطرقنا في المقال السادس إلى التحدث عن أصحاب الكنيف في شرح تحليلي ناقد لأول بيتين من قصيدة أصحاب الكنيف التي يقول في مطلعها:

ألا إنّ أصحابَ الكنيفِ وجدتُهم كما الناس لما أخصبوا وتمولوا (ينظر في ديوان عروة، 1998 ص 91-93).
في هذا التحليل أواصل استطراد القصة التصويرية عن واقع حياته والتي رسمها الفارس والشاعر عروة بن الورد في أبيات قليلة، لكنها تعبر عن قصة مؤثرة من الحياة التي مارسها شاعرنا، وتنطبق على جَمٍ من الوقائع قديماً وحديثاً، القارئ الكريم يستنبط أن الأبيات مليئة بالاستعارات والتشبيهات الشعرية الرائعة ومثل ذلك استشعار وتذوق روعة اللغة العربية التي لا يختلف عليها اثنان بغزارة معانيها ومفرداتها ومصطلحاتها التي، لكثرتها وشيوعها وغزارتها، يعجز عنها العربي في الإلمام التام بمفرداتها، والشاهد على ذلك هو الشعر العربي الفصيح بخاصة الحقبة الزمنية الطويلة التي سبقت بزوغ نور الإسلام والذي يعتبر الجذر الراسخ للغة العربية، أصلها ثابت في أعماق القلوب وشذرات فواحة ذات فروع تطاول عنان السماء.
وتواصلاً لما تم استعراضه في البيتين السابقين من المقال السابق، نجد في البيت الثالث أدناه إستكمال الشاعر الفارس عروة بن الورد تصويره لمجموعة الصعاليك الذين أكنفهم ورباهم وأقامهم فرسان للغزو وإعالة الفقراء والضعفاء ولكنهم لم ينشئوا كما تمنى واراد حيث تمكن الهوى وحب الذات من بعضهم لدرجة جعل أنفسهم نداً مساوياً لقائدهم في الغنائم بالرغم من أنه كان يساويهم معه في تقسيم الغنائم ولم يبخل على أحد ما طلب، وبالرغم من أنهم ليسوا ندا له في سجاياه أو في فروسيته.
نقف في هذا المقال مع البيت الثالث من ذات القصيدة قليلة العدد والذي يقول فيه عروة:
وإذ ما يريح الحي صرماء جونة ينوسُ عليها رحلُها ما يحلّل 
البيت أعلاه يوضح أن أصحابه هؤلاء لا يعتمد عليهم، هذا البيت الشعري من الأبيات الغريبة في ألفاظها ومعانيها ودلالاتها، إلا إنها محتفظة بمعانيها العربية الفصحى والتي قد يجهلها كثير من العرب حديثاً وذلك بسبب انحدار معظم العرب عن برج الفصحى إلى هاوية اللهجات العامية، وانسلاخهم من عمودهم الفقري (اللغة الفصحى – لغة القرآن) إلى لهجات متفرقة مجتزه، يقول عروة بن الورد: وإذ ما يريح الحي صرماء جونة، وبالرجوع إلى تفسيرات المعنى مستعيناً بالمعاجم وشروحات من سبق من المهتمين بالشعر العربي خصوصاً الفصيح والقديم منه يمكن القول أن ’صرماء‘ هي نوع من الماشية، لا سيما الإبلِ ، التي جُذت حلمات ضرعها من أجل أن ينقطع لبنها وبذلك تشتد قُوَّتُها، ومثل ذلك يشتدُ ويقوى لحمها، الشاعر هنا يروم أن يوَصّل لسامعيه صورة جمالية لغوية إبداعية في دلالة المعنى وايضاً صورة من صور الكرم الذي لا يضاهى أو يقارن، والمعنى في ذلك قوله أن الإبلِ التي تروح علينا هي صرماء جونة أي أنها قِدر كبير لونه أسود، ويمتاز أنه يُطبخُ فيه اللحم ما تفتر وذلك كل عشية وكل مساء، ومصطلح ’جونة‘ يقصد به نوعٌ من الإبلِ التي تتميز بلونها الأسودِ، وهي هنا إشارة استعارية إلى قِدرِ الطعام الذي صار لونه أسود نتيجة لكثرة استعماله في طهو الطعام، وفي هذا السياق نجد ابداع رائع للشاعر الذي يجول ويصول بمفردات الكلمات ومعنيها ومقاصدها مثل ما يصول ويجول الجواد زهواً بعدوه الأخاذ، في هذه البيت الشعري يدرك القارئ بوضوح ادراج الشاعر واستخدامه للاستعارة التصريحية (ومعناها أن الشاعر يحذف المشبه ويستبدله بالمشبه به) والتي مفادها – وفقاً لمعنى البيت – أن الناس يرجعون عند سدول العِشاء بإبلهم بينما هو يروح بقدر كبير تشبيها بحجم الناقة لما يطهى فيه من طعام، وهذا الطعام السخي لا يحتفظ به لنفسه وعائلته كما هي عادة غيره بل يوزّع مقداراً على أصحابه ويتفضل بقدر آخر على كل ذي حاجة ومعوز وفقير، الناس من دونه يعودون إلى ديارهم بإبلهم في فترة العِشاء كناية عن رجوعهم من الرعي وإبلهم قد أخذت كفايتها من المرعى، في الوقت الذي يقوم أمير الصعاليك ابن الورد بتقديم ما يناله من إبل و يجعله طعاماً لإصحابه وجزء كبير للفقراء والمحتاجين والمرضى من قومه.
هذا السياق يقودنا إلى صدق عبد الملك بن مروان الذي قال: من قال أن حاتم الطائي أكرم (أسمح) العرب فقد ظلم عروة بن الورد، صحيح أن الكرم الذي اشتهر به حاتم الطائي له مكانته لدى سامعيه إلا أن هناك فرق كبير بين كرم كل من حاتم الطائي وعروة بن الورد، حاتم الطائي كان غنياً وما كان يقدمه من كرم لم يجعله يفقد كل ما كان معه، وبذلك لا يشعر أنه محتاج أو ينقصه شيء أو أنه محتاج إلى شي أي أنه لم يؤثر غيره بكل ما لديه، في الوقت الذي كان عروة بن الورد يقدم كل ما كان يملكه للمحتاجين ولا يبقى معه شيء يعوله أو يعول أهله، يمكن المقارنة بين كريم يعطي جزء يسيراً مما يملك ولا يذكر مقارنة بما عنده وبين كريم يمنح ويهب للمحتاج كل ما يملك، وزيادة في الإيضاح يمكن للقارئ أن يتصور ويقارن بين رجلين أحدهما يملك مائة دينار والأخر يملك عشرة دنانير، الأول يجود بعشرة دنانير مما يملك والأخر يجود بكل ما يملك، فمن الأكرم؟ وبذلك يجوز القول أن عبد الملك بن مروان قد صدق في حكمته عن كرم عروة بن الورد، مشهد أخر في هذا السياق يقودنا إلى استحضار فرض من الفروض الإسلامية وركيزة من ركائز الإسلام التي بني بها وعليها هذا الدين العظيم، إنها الزكاة التي عمل عروة بن الورد بمبادئها قبل إرسال الرسالة الخالدة التي جاءت لتتمم مكارم الأخلاق.
وبالعودة إلى ما ذكره عروة بن الورد في البيت أعلاه نجد الاستعارة التصريحية واضحة حيث أنه حذف المشبه وهو القدر واستعاض بدلاً عنه بلفظ المشبه به وهو الناقة في قوله ’صرماء‘، وبالانتقال إلى الشطر الثاني: ينوسُ عليها رحلُها ما يحلّل، فنجد استمرار الشاعر الفارس في رسم صور إبداعية مكملة لما سبقها ومحطها الاستخدام المتقن للمفردات بما تحويه من معانٍ عميقةٍ خلابةٍ، فكلمة ’ينوس‘ تدل على الحركة بمعنى يتحرك، وبالرجوع إلى شرح أبن السكيت لديوان عروة يمكن الاستشهاد برايه حيث يقول: وينوس عليها رحلها: الرحل ههنا الأثافي (والأُثْفِيَّة: ما يوضع عليه القِدْر) لأنها توضع تحتها لا تحول عنها، وهي الدهر مقيمة، وينوس يتحرك من ثقل القدر، وفوقها أعلاها، وإنما أراد أن الأثافي تتحرك  بصعوبة على هذا القدر، كما  في القول: ’تحرك على السطح‘ و’تحرك على الحائط‘، و’ما يحلل‘ إشارة إلى وضع القدر وثباته الذي لا يتململ نتيجة لامتلائه بلحم الناقة، والوصف هنا ينطبق على القدر الكبير وفي ذات الوقت ينطبق على الناقة، فالقدر والناقة طرفي استعارة من الصعب أن يجتمعا إلا لغاية إما شعرية أو لغوية وهنا يجوز القول أن الشاعر جعل اقتران طرفي الاستعارة من باب التلميح والظرافة لأغراضه الشعرية وإعطاء المعنى دلالة تقويه وتوضحه، ومعنى تكملة البيت أن الناس تروح عليهم (إليهم) إبلهم وغنمهم بالعشيات، إي مع قدوم المساء، والذي يروح على عروة واصحابه قدر سوداء يطهى فيها اللحم كل مساء.
يتبع
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية