د. ميسون علي جواد التميمي
إن تعليم العلوم الدقيقة في الوطن العربي بلغات أجنبية غير اللغة العربية من شأنه أن يؤدي إلى انفصام فكري ويهدد أجيال الأمة بضياع هويتها ،فضلا عن تسببه في ضحالة التحصيل العلمي، وحرمان الطالب من الفهم الصحيح للمعاني، وبالنتيجة وجود طبقة ثقافية في الوطن العربي تهدد نموه الفكري والعلمي وذلك بخلاف اللغة العربية التي ينشأ الطالب معها ويتشربها على امتداد مراحل عمره التعليمي، إذ إن تدريس العلوم باللغة الأم يسهم في الحفاظ على الهوية الثقافية من الضياع ،والحفاظ على حيوية اللغة عبر اتصالها مع تطورات العلم وإنجازاته، ولا تقتصر المسألة على ذلك، فالدراسة باللغة الأم وفقا لدراسات علمية تحقق للطالب فهما أعمق وأسرع ونتائج أفضل.
أعتقد أن أغلب الجامعات في العالم العربي يكون فيها الطالب عربيا والأستاذ عربيا والجامعة أو الكلية تخدم مجتمعا عربيا ولكن الطالب العربي يدرس العلوم والتقنية فيها باللغة الأجنبية أو الفرنسية مثل المغرب والجزائر ،وعلى الرغم من أن خبراء منظمة اليونسكو(منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم) أوصوا باستعمال اللغة العربية لغة عمل في منظماتها جميعا وغالبية الدول العربية التي ناضلت للحصول على ذلك الاعتراف لم تستعمل اللغة العربية لحد الآن في تدريس العلوم والتقنية في جامعاتها العلمية والتقنية.
بناء على ذلك أرى أن من أغرب المفارقات أن تستمر الدول العربية في تدريس أبنائها بلغة اجنبية مع أنها تمتلك لغة من أفضل اللغات وأسماها ،وما يبرز هذه المفارقة أن الطالب في دول العالم جميعها يدرس في مراحل تعلمه العالي العلمي والتقني بلغته الام ،أما الطالب العربي يتلقى تعليمه العالي لاسيما العلمي والتقني في غالبية الدول العربية باللغة الأجنبية التي فرضها الاستعمار لضمان تبعية العربية له علميا وتقنيا ومن ثم اقتصاديا، وأبعاد إمكانية نبوغ الأمة العربية علميا وإضعاف اللغة العربية.
لهذا جاء هذا المقال ليبرز أهمية التعريب في التعليم الجامعي، وما يعانيه من معوقات وما يرتكز عليه من عوامل نجاحه ،فضلا عن أهمية تعريب العلوم المختلفة والتجارب التي أجريت في بعض الدول العربية التي أثمرت نجاحا يستحق الفخر،وكذلك إبراز بعض الأطر والمبادئ للنهوض بالتعريب منها احتسابه قضية حضارية يرتبط بها بقاء الأمة وتأصيل فكرتها، وإحلال اللغة العربية في المركز اللائق بها في المحافل الدولية كمنظمات الأمم المتحدة، إذ إن الوطن العربي يواجه اليوم مشكلة إقصاء اللغة العربية عن مجال تدريس العلوم الطبية في مختلف أقطاره.
حق اللغة العربية علينا
قال تعالى “إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” (يوسف/2)
فمن واجبنا تجاه اللغة العربية أن نتمسك بها ونحافظ عليها فمن فارقته هذه اللغة فقد السبيل الواضح الى كتاب الله فهي لغة العروبة والإسلام ومن أعظم مقومات القومية العربية وهي لغة حية، إذ كانت أداة التفكير ونشر الثقافة في بلاد الأندلس التي أشرقت فيها الحضارة على أوربا فبددت ظلماتها وقشعت عنها سحب الجهالة ودفعتها إلى التطور والنهوض، فمن حق اللغة علينا ان نخلص لها ،وان نبذل الجهود لرفع شأنها وسيادتها في المجتمع العربي، ومن حقها في الميدان التعليمي أن نوليها اكبر قسط من العناية، يقول المستشرق الفرنسي (هنري أوسيل)في هذا المجال مخاطبا وزير التربية في فرنسا (علمت انك مقبل على تطوير التربية في فرنسا، فاقترح إدخال اللغة العربية لغة ثانية حتى يتعلم الطالب الفرنسي من العربية عمق التفكير).
وأرى أنه للحفاظ على سلامة لغتنا الفصيحة علينا أن ندرس قواعدها وفروعها الأخرى بالشكل الذي يبرز أهميتها بين لغات العالم ،لذا عمدت مؤسسات التربية والتعليم في العراق الى منح اللغة العربية اهتماما لانظير له من خلال زيادة الحصص المقررة للصفوف والمراحل الدراسية عامة، وذلك للنهوض بها ضد أي لغة أجنبية، ولكن أي لغة من اللغات لم تعش منعزلة عن غيرها الا وكان ذلك نذيرا بفنائها، فاية لغة لابد أن تتأثر ببعض اللغات وتؤثر في بعضها،وهذا شأن اللغات جميعا،فاللغة غير منفصلة عن الحياة وحياة الشعوب مزيج عجيب من حضارات مختلفة تنتقل من شعب الى آخر عبر لغته، وتنتقل معها الالفاظ المعبرة عنها ،لذا لا تخلو لغة من الفاظ اقترضتها من غيرها أو معان جديدة وفدت إليها من لغة أخرى.
وتعد قضية تعريب التعليم الجامعي إحدى الركائز المهمة التي تعتمد عليها اساليب التطور التربوي في الجامعات العربية التي تجد اهتماما خاصا من المسؤولين في المجالات التعليمية عامة، وذلك ان اللغة العربية في الواقع لغة التدريس والبحث العلمي بحسب ما تقتضي به النظم واللوائح في مؤسسات التعليم الجامعي،وان الاستثناء الممنوح لبعض البرامج التعليمية في المجالات العلمية والتطبيقية للتدريس باللغات الاجنبية يأتي كأجراء مرحلي ريثما تتوافر الظروف الملائمة لتعميم نظام التعليم باللغة العربية في تلك الجامعات،فقد أضحى موضوع التعريب من الموضوعات الاساسية اتي تهتم بها الجامعات ومؤسسات التعليم والبحث العلمي في البلدان العربية لما للتعريب من اهمية في تطوير مناحي الحياة العامة والاسهام البناء في تأصيل الفكر العربي ،وقد جاءت فكرة النهوض بالتعريب في المجالات العلمية انطلاقا من أحاسيس الأمة العربية ومسؤوليتها نحو الأجيال الجديدة ،إذ طفق الجميع يشحذون الهمم والعزائم لتكثيف الجهود لبناء صرح التعريب في مجالات المعرفة جميعها.
وأرى أنه لابد قبل تعريب العلوم أن يكون للعرب نصيب فيها من التأليف والمشاركة الفاعلة وليس مجرد التلقي الذي بالكاد يدرك القليل من العمل الجاد والجهد الكافي.
الأمة