للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

من الظواهر اللغوية: الحذف - 2

د. طاهر عبد الفتاح الطويل

 

الحذف والدليل

 
     ذكرنا آنفًا أن الحذف إسقاط لصيغ داخل النص التركيبي ، وأن هذه الصيغ المسقطة يُفترض وجودها في النص؛ لسلامة التركيب نحويًّا، إذًا فتمام الكلام لن يتحقق إلا بتقدير هذا المحذوف ذهنيًّا دون الكتابة ؛ لاستقامة المعنى، ولتحقيق الإفادة من الكلام، وليكون إثبات التقدير ممكنًا لبيان المحذوف[1]؛ لأن الذكر هو الأصل، والحذف هو العدول عن الأصل.
"   والحذف لا يصح ولا يجمل من الناحية البلاغية والدلالية، إلا إذا وقع موقعه المناسب، وكان في محله اللائق؛ ولذلك اشترط العلماء في جواز الحذف أن يكون في الكلام المذكور دلالة على الكلام المحذوف...؛ لكي يُتمكن من معرفته، وإلا يصير اللفظ مخلًّا بالفهم، ويصير الكلام لغزًا، وينأى عن الفصاحة"[2]، وهو ما أكده النحاة كابن السراج بقوله: "واعلم أن جميع ما يحذف فإنهم لا يحذفون شيئًا إلا وفيما أبقَوا دليل على ما ألقَوا" [3]؛ لذلك فإن الحذف لا يكون إلا "عند العلم، وأمن الإلباس، والشيء إذا عُلم وشُهر موقعه، سهُل حذفُه وإسقاطُه "[4]؛ ولذلك يقول (المبرد): "الحذف موجود في كل ما كثر استعمالهم إياه "[5].
     وبِناءً على هذا؛ فإن الحذف الحسن والمستحسن عند العرب هو ما كان عليه دليل؛ جاء في  ) أمالي المرتضى) "وإنما يستحسن العرب الحذف في بعض المواضع؛ لاقتضاء الكلام المحذوف، ودلالته عليه " [6]، وهو ما جعل الحذف غير المصحوب بدليل غير جائز؛ يقول الزمخشري: "وحذف ما لا دليل عليه غير جائز"  [7]؛ لذلك فإنه لا مفر من الذكر، كما يقول (المبرد) : " فإن لم يكن ذكر ولا حال دالة، لم يكن من الإظهار بُدٌّ " [8]، واستنادًا لما سبق من لزوم وجود دليل على المحذوف؛ خطَّأ الآمديُّ أبا تمام في قوله:
         يَدِيْ لِمَنْ شَاءَ رَهْنٌ لَمْ يَذُقْ جُرَعًا *** مِنْ رَاحَتَيْكَ دَرَى ما الصَّابُ وَالعَسَلُ[9]
      وعلق الآمدي على البيت بقوله: "لفظ هذا البيت مبني على فساد؛ لكثرة ما فيه من الحذف؛ لأنه أراد بقوله :( يدي لمن شاء رهن)؛ أي: أصافحه وأبايعه معاقدة أو مراهنة، إن كان لم يذق جرعًا من راحتيك درى ما الصاب والعسل، ومثل هذا لا يسوغ؛ لأنه حذف (إنْ) التي تدخل للشرط، ولا يجوز حذفها؛ لأنها إذا حُذفت سقط معنى الشرط، وحذَفَ (مَنْ) وهي الاسم الذي صلته (لم يذق)؛ فاختل البيت وأشكل معناه " [10]، وقال القاضي الجرجاني: "حَذَفَ عمدة الكلام، وأَخَلَّ بالنظم، وإنما أراد: يدي لمن شاء رهن (إن كان) لم يذق، فحذف (إن كان) من الكلام؛ فأفسد الترتيب، وأحال الكلام عن وجهه " [11]، وهذا الدليل الذي لا بد من وجوده حتى يحسُن الحذف ويجمل، ويستطيع القارئ أو السامع أن يُقدِّر المحذوف، دون أن يقع في لبس أو خلط - هو ما أطلق عليه أستاذنا الدكتور تمام حسان مصطلح (القرائن ) [12].
      وهذا الدليل الذي يعيِّن ويشير إلى المحذوف هو: إما دليل مقالي، أو حالي؛ لأنه كما يقول ابن يعيش: "إن قرائن الأحوال قد تغني عن اللفظ؛ وذلك أن المراد من اللفظ الدلالة على المعنى، فإذا ظهر بقرينة حالية أو غيرها، لم يحتج إلى اللفظ المطابق، فإن أُتي باللفظ المطابق جاز وكان كالتأكيد، وإن لم يؤتَ به فللاستغناء عنه "[13]، وقد أدرك السيوطي أهمية القرائن، ودورها في إيصال المعنى؛ فنقل كلام ابن يعيش السابق في )الأشباه والنظائر) تحت عنوان: " قرائن الأحوال قد تغني عن اللفظ "[14].
     فالدليل الأول هو الدليل المقالي، ويكون بالنظر إلى إعراب اللفظ، أو كما يسميه أحد الباحثين المعاصرين بـ"المقام اللغوي المتعلق بالمستوى السطحي "[15] ، ومن أنواعه: "الاستلزام، وسبق الذكر، وكلاهما من القرائن اللفظية "[16] على حد تعبير الدكتور تمام حسان، كما أنهما من أهم القرائن الدالة على الحذف[17]، فإذا كان اللفظ - مثلًا - منصوبًا، فإنك تحتاج إلى ناصب، كقولك: (أهلًا وسهلًا)، والتقدير: قدمت أهلًا، ونزلت سهلًا[18]، وقوله تعالى: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ﴾ [النحل: 30]؛ أي: أنزل خيرًا ، بدلالة ما قبلها، وإذا كان مرفوعًا، فإنه يحتاج إلى رافع؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ الزخرف: [87]؛ أي: خلقنا الله؛ لذا قال المبرد: "... ولا يجوز الحذف حتى يكون المحذوف معلومًا بما يدل عليه من متقدم: خبر، أو مشاهدة حال "[19]، وهو ما عناه أستاذنا الدكتور أحمد كشك بقوله: "باعتماد الحذف على المسرح اللغوي "[20]؛ لذلك فإن "المحذوف لا يعد مفصولًا أو معزولًا، وإنما تستدعيه العناصر المذكورة في النص؛ مما يجعل القارئ أو السامع يدرك المحذوف[21] ".
      وأما الدليل الثاني: فهو الدليل الحالي أو المحيط الخارجي؛ فالنص "لا يُفسَّر فقط من خلال لغته ومفرداته، وإنما يفسر من خلال عناصر ليست لغوية، تسمى )المحيط الخارجي والملابسات ) "[22]؛ لهذا فإن المتكلم يستطيع "أن يحذف من كلامه الذي يريد توصيل معناه لمن يتلقى كلامه - ما يمكن أن يفهمه المتلقي بقرائن الحال أو المقال، أو باللوازم الفكرية الخفية، أو بالإشارات التي تُدرَك بالذكاء "[23].
     وهذا الدليل الحالي قد يكون بالنظر إلى المعنى أو السياق؛ فالسياق والمقام لهما دور كبير في تحديد معنى اللفظ، أو ذكر اللفظ وحذفه، "كما في قولهم: فلان يحل ويربط؛ أي: يحل الأمور ويربطها؛ أي: ذو تصرف، ونحو قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ ﴾ هود[ 69]؛ أي: سلمنا سلامًا "[24].
 
     ويدخل ضمن الدليل الحالي: الحالُ المشاهدة؛ فإن لها دورًا في بيان المحذوف، كما أنها تقوم "مقام أحد ألفاظ الخطاب اللغوي، ويُستغنى بها عنه فيُحذف البتة "[25]. 
     وقد اهتم النحاة ببيان ما للحال المشاهدة من أثر ودَوْرٍ في تأويل وتحليل بعض التراكيب اللغوية؛ منهم المبرد الذي أشار إلى هذا في أكثر من موضع في كتابه "المقتضب"؛ إذ يقول: "ولا يجوز الحذف حتى يكون المحذوف معلومًا بما يدل عليه من متقدم: خبر، أو مشاهدة                 حال " [26]، ويقول أيضًا: "... فهذا لا يكون إلا لما تُشاهد من الحال؛ فلذلك استغنيت عن ذكر الفعل"[27]، ويقول في موضع آخر: "... أغناه عن ذكر الفعل ما شاهد من الحال"[28]، ويضرب المبرد لذلك مثالًا بقوله: "وكذلك كل مستغنًى عنه، فإن شئت أظهرت الفعل... وترى الرامي قد رمى فتسمع صوتًا، فتقول: القرطاسَ والله؛ أي: أصبتَ... وإن شئت قلت: أصبتَ القرطاس يا فتى"[29]، ويقول: "وقد يحذف الفعل... وذلك قولك: رأسَك والحائطَ، ورأسَه والسيفَ يا فتى... دلَّ على الفعل المحذوف بما يُشاهدُ من الحال "[30].
     كذلك أشار ابن جني إلى ضرورة مشاهدة أحوال المتكلمين، والنظر إلى وجوههم وتفرسها؛ إذ يدلل على المعنى المقصود، ويقلل ما في النفوس من معانٍ وأغراض[31].
    لذلك كانت دلالة الحال المستغنى بها عن المحذوف دليلًا على الحذف وقوة بيانه؛ يقول حازم القرطاجني: "إنما يحسن الحذف ما لم يشكل به المعنى؛ لقوة الدلالة عليه، أو يقصد به تعديد أشياء، فيكون في تعدادها طول وسآمة؛ فيحذف ويكتفى بدلالة الحال عليه، وتُترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال عن ذكرها على الحال "[32]؛ وعليه فإن للمتلقي دورًا بارزًا في التحليل وفهم النص للوقوف على المحذوف، سواء أكان ذلك من خلال الدليل المذكور، أم الدليل الحالي، أم الدليل المقامي السياقي؛ فالعبارة المختصرة "تعتمد على ذكاء القارئ والسامع، وتعوِّل على إثارة حسه، وبعث خياله، وتنشيط نفسه؛ حتى يفهم بالقرينة، ويدرك باللمحة، ويفطن إلى معاني الألفاظ التي طواها التعبير "[33].
_________________________________________   
[1] انظر: ظاهرة الحذف والذكر، بحث بمجلة علوم اللغة، المجلد (13)، السنة 2010 م، العدد الثاني، د. فايز أحمد محمد الكومي، ص: 216.
[2] بلاغة الحذف في القرآن الكريم، د. محمد الطاووس، دار حراء للطباعة والنشر، المنيا، الطبعة الأولى 1995 م، ص: 26.
[3] الأصول في النحو، لابن السراج، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1417 ه - 1996 م، 2/ 254.
[4] البلاغة القرآنية في تفسير (الزمخشري) وأثرها في الدراسات البلاغية، د. محمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية 1408 ه - 1988 م، ص: 403.
[5] المقتضب، أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، تحقيق الأستاذ الشيخ/ محمد عبدالخالق عضيمة، وزارة الأوقاف المصرية ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1415 ه - 1994 م، 2/ 144.
[6] أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد)، 2/ 48.
[7] الكشاف، 2/ 654.
[8] المقتضب: 3/ 267.
[9] البيت من البسيط، لأبي تمام يمدح المعتصم بالله، من قصيدة أولها:
فَحْواكَ عَيْنٌ على نَجْوَاكَ يا مَذِلُ *** حَتَّامَ لاَ يَتَقضَّى قَوْلُكَ الخَطِلُ
المذِل: الذي لا يكتم سره، الخَطِل: المضطرب؛ شرح ديوان أبي تمام للخطيب التبريزي، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه: راجي الأسمر، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1414 ه - 1994 م، 2/ 8، وانظر: دلائل الإعجاز، ص: 84، وبلا نسبة في أسرار البلاغة، ص: 143، و"الصاب": شجر مرٌّ له عصارة بيضاء كاللبن بالغة المرارة، إذا أصابت العين أتلفتها؛ المعجم الوسيط، 1/ 527.
[10] الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، تحقيق الأستاذ/ السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1992 م، 1/ 190.
[11] الوساطة بين المتنبي وخصومه، القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني، تحقيق وشرح الأستاذين: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الأولى 1427 ه - 2006 م، صـ ـ : 75.
* ذكر التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام أن "البيت قد حُذف منه حرف النفي؛ لأن المعنى معنى القسم، كأنه قال: والله لا أدري مَن لم يذق جُرَعًا من راحتيك، فحذف النفي؛ لأن المعنى دالٌّ عليه، كما تقول: والله أفعل أبدًا؛ أي: لا أفعل"، كما ذكر عدة تأويلات أخرى ترفع الخطأ عن أبي تمام، ومعنى البيت: "من لم يذق من بأسك وجودك جُرَعًا، لم تتحقق عنده مرارة الحنظل، ولا حلاوة العسل"؛ انظر: شرح التبريزي لديوان أبي تمام، 2/ 552.
[12] راجع اللغة العربية معناها ومبناها، د. تمام حسان، الفصل الخامس (النظام النحوي)، دار الثقافة، الدار البيضاء، من دون رقم طبعة، 1994 م، صـ : 177.
[13] شرح المفصل، لابن يعيش، 1/ 125.
[14] الأشباه والنظائر، للسيوطي، تحقيق: د. عبدالعال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 ه - 1985 م، 2/ 301.
[15] انظر ظاهرة الحذف، فايز الكومي، صـ : 216.
[16] اللغة العربية معناها ومبناها، صـ : 221.
[17] انظر: المرجع السابق، صـ : 221.
[18] انظر: الحذف والتقدير، د. علي أبو المكارم، ـصـ : 201.
[19] المقتضب: 2/ 79.
[20] انظر: اللغة والكلام، أبحاث في التداخل والتقريب، د. أحمد كشك، دار غريب، القاهرة، 2004 م، صـ : 18.
[21] ظاهرة الحذف، فايز الكومي، صـ : 225.
[22] المرجع السابق، صـ : 224.
[23] الأسلوب الخبري وأثره في الاستدلال واستنباط الأحكام الشرعية، صـ : 145.
[24] بلاغة الحذف في القرآن الكريم، د. محمد الطاووس، صـ : 27.
[25] الوجهة الاجتماعية في منهج التحليل اللغوي، سائدة عمر عبدالله العيص، بحث منشور في مجلة كلية دار العلوم، يناير 2012 م، العدد 64، صـ : 380.
[26] المقتضب: 2/ 79.
[27] المقتضب: 3/ 264.
[28] المقتضب: 3/ 264.
[29] المقتضب: 2/ 317، وانظر الكتاب، 1/ 257.
[30] المقتضب: 3/ 215.
[31] انظر: الخصائص: 1/ 245.
[32] منهاج البلغاء وسراج الأدباء، أبو الحسن حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1986 م، صـ: 391.
[33] خصائص التراكيب، دراسة تحليلية لمسائل علم المعاني، د. محمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1416 ه - 1996 م، صـ: 153.
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية