|
|

ثنائية "اللسان والكلام" وأثرها في الدراسات الحديثة
د. أحمد الهادي رشراش
يعود الفضل في ظهور فكرة (الثنائيات) وذيوعها بين اللسانيين والأدباء والنقّاد إلى اللساني السويسري فردينان دي سوسير الذي تميّز فكره اللساني بطرح مجموعة من الثنائيات المتقابلة، أهمها:
1- ثنائية: الدراسة الوصفية التزامنية والدراسة التاريخية التعاقبية (Synchronic & Diachronic).
2- ثنائية: الدال والمدلول & Significant) .(Signifie
3- ثنائية: العلاقات الأفقية والعلاقات الرأسية ( Syntagmatic & Paradigmatic relation).
4- ثنائية: اللسان والكلام ( Langue & Parole) .
وانتشرت تلك الثنائيات بين الدارسين في حقول معرفية عديدة، كالحقل اللساني، والحقلين الأدبي والنقدي، فاستهوت كثيرين منهم، فاشتهى بعضهم الكتابة في الثنائيات، سواء أكانت ثنائيات دي سوسير نفسها أم ثنائيات أخرى، كثنائية: "الاختيار والتأليف" و"الداخل والخارج" و"الصوت والمعنى" و"الحضور والغياب" ...الخ.
أولاَ- ثنائية "اللسان و الكلام" عند دي سوسير:
تردّدت في كتاب "دروس في الألسنية العامة" لفردينان دي سوسير ثلاثة مصطلحات لا بدّ من التفريق بينها في الدرس اللساني، وهي: اللغة بمعناها العام (Language) واللسان أو اللغة المعيّنة Langue)) والكلام Parole)).
أكّد فردينان دي سوسير أنّ اللغة Language)): ظاهرة عامة تتمثّل في "اللسان والكلام" وهي ملكة التخاطب التي يملكها كل البشر طبقاً لقوانين الوراثة، أي أنها ظاهرة إنسانية عامة، إنّها القدرات الذهنية التي يمتلكها الإنسان، وتمكّنه من اكتساب اللغة، وهي ليست مجال اهتمام اللسانيات، وإنّما يُعْنَى بها علم النفس.
وللوصول إلى تحديد موضوع اللسانيات فرّق دي سوسير بين اللغة واللسان، فقال:" فيما يخصّنا، فإننا نفرّق بين اللسان (Langue) وبين اللغة Language)) فليس اللسان إلا جزءاً محدّداً من اللغة، وهو جزء أساسٌ لا شكّ فيه، وبهذا الاعتبار يكون اللسان في الوقت ذاته إنتاجاً مجتمعيّاً حادثاً عن ملكة اللغة".
وأخذ بعد ذلك في التفريق بين مصطلحي: اللسان Langue)): النظام اللغوي نفسه، وهو نظام من العلامات يستخدم في التفاهم بين أفراد جماعة لغوية محدّدة ، وهو جانب ذهني مجرد؛ لأنه يتعلّق بمجموعة القواعد المخزونة في أذهان أفراد المجتمع الواحد. والكلام Parole)): وهو الاستخدام الفردي للسان، أي ما يختاره فرد من أفراد المجتمع المعيّن، يقول: "وعندما نفرّق بين اللسان والكلام، فإنّنا نكون قد عزلنا في الوقت ذاته:
1) ما هو مجتمعي عما هو فردي.
2) وما هو أساس عما هو ثانوي أو عارض في الأعم الأغلب".
ثانياً- ثنائية "اللسان والكلام" في الدراسات اللسانية بعد دي سوسير:
حظيت ثنائية دي سوسير (لسان- كلام) بأهمية كبيرة في الدرس اللساني الحديث، فدارت على ألسنة اللسانيين، وجرت بها أقلامهم، وكان لبعضهم مواقف من تلك الثنائيات إيجاباً أو أسلباً.
أ- أثر ثنائية "اللسان والكلام" في فكر اللساني الفرنسي شارل بالي:
لا عجب أن يتأثّر اللساني شارل بالي بفكر دي سوسير، وبخاصة إذا عرفنا أنّه تلميذه وخليفته في كرسي اللسانيات بجامعة جنيف.
اهتم بالي بثنائية دي سوسير "اللسان الاجتماعي" و"كلام الأفراد" فرأى أنّ اللسان "ظاهرة اجتماعية تتيح التواصل بين أفراد البيئة الواحدة، في حين أنّ الكلام يرتد إلى سيكولوجيا الفرد، من حيث هو وسيلة تعبيرية تبرز عواطفه وانفعالاته وحياته الوجدانية".
لقد حاول بالي إقامة ألسنية الكلام، ورأى أنّ العلم الذي ينبغي أن يعنى بذلك هو الأسلوبية Stylistics)) فينبغي أن "تتخذ هذه الكلمة مضموناً مغايراً لمضمونها الشائع، فالمعطيات التجريبية التي تكوّن مجال الملاحظة الأسلوبية تندرج، بشكل عام، في مجال الكلام العفوي وعبر تحليل السياق ودراسة انفعالات المتكلّم- المستمع"
إن الأسلوبية الحديثة نشأت على يدي بالي، إذ أخضعها للمنهج العلمي، فرأى أنّها جزءٌ من الدراسة اللسانية العلمية، وطالب " بتحريرها من المتطلبات الجمالية والقياسية التقليدية".
ويعود الفضل في نشأة الأسلوبية إلى ثنائية دي سوسير اللسان(اللغة المعيّنة) وهو الجانب الاجتماعي الذّهني المجرّد من اللغة، والكلام (الخطاب) وهو الجانب الفردي الملموس المنجز، وتفريقه بينهما، إذ رأى أنّ الجدير بالاهتمام هو اللغة لا الكلام، فانطلق شارل بالي من هذا المبدأ وجعل اللغة المستعملة العادية (غير الأدبية) موضوعاً للدراسة اللسانية؛ فنتج عن ذلك بروز الأسلوبية التعبيرية أو اللسانية على يديه.
ب- موقف اللساني يسبرسن من ثنائية دي سوسير "اللسان والكلام":
ينتمي اللساني يسبرسن إلى مدرسة "كوبنهاجن اللسانية " وهو يتفّق مع دي سوسير في كثير من الأفكار، ولكنّه يختلف معه في ثنائية "اللسان /الكلام" إذ انتقد يسبرسن هذه الثنائية، وذهب إلى أنّ التمييز القاطع بين "اللسان والكلام" أمر غير ممكن، فعلاقة اللغة بالكلام في نظره شبيهة بمعنى الكلمة في صيغتي المفرد والجمع، فكلمة (أقلام) مثلاً تتحدّد علاقتها بدلالة كلمة (قلم) في أنّ معنى الأولى هو أنها تدل على قلم رقم[1]، وقلم رقم [2]، وقلم رقم [3] على التوالي .. واللغة كذلك هي كلام الفرد رقم [1] وكلام الفرد رقم [2] وكلام الفرد رقم [3]، ومن ثّمّ فإنّ اللغة في حقيقة الأمر ليست شيئاً آخر غير الكلام.
ولكنّ كلام يسبرسن هذا مردود عليه؛ لأنّ العلاقة بين أحد الأقلام [1] أو [2] أو [3] ليست علاقة تطابق مع كلمة (أقلام) وإنّما هي علاقة الجزء بالكل.
ج- أثر ثنائية "اللسان والكلام" في فكر اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي:
من أهم ركائز نظرية تشومسكي "التوليدية التحويلية" ما اصطلح عليه بالكفاءة أو الكفاية اللغوية أو المقدرة (Competence) والأداء الكلامي (Performance).
والكفاءة اللغوية عند تشومسكي هي: "القدرة على توليد العديد من الجمل استناداً إلى المعرفة بالقواعد اللغوية أو هي:" استطاعة فهم الجمل التي ينطقها الآخرون أو يكتبونها".
والأداء الكلامي، فهو: "استعمال اللغة في صورة منطوقة أو مكتوبة، أي أداء اللغة بشكل فعلي وعملي" وهذا الأداء ترجمة لما حدث من القدرة، إذ يتم عن طريق مقدرة الفرد اللغوية.
وما يعنينا في هذا المقام هو أنّ مصطلحي "الكفاءة اللغوية والأداء الكلامي" يرتبطان بثنائية دي سوسير (اللسان والكلام). فمصطلح "الكفاءة اللغوية" عند تشومسكي يقابل مصطلح "اللسان" عند دي سوسير، ومصطلح "الأداء الكلامي" عند تشومسكي" يقابل مصطلح الكلام عند دي سوسير، والفرق بين اللسان والكلام هو فرق بين شكل لغوي جامد وواقع لغوي معيش ، على أنّه يجب التنبّه إلى وجود فوارق بين مصطلحات تشومسكي ومصطلحات دي سوسير "فاللسان عند دي سوسير ليس سوى مخزون الكلمات وتعابير ثابتة لا رابط بينها، بحيث إنّه لا مجال فيها لقواعد لغوية، إذ لا تنحصر مهمتها في صياغة الجمل، بل في كونها حافظة للكلمات والمفردات اللازمة لعملية الكلام، أما تشومسكي فيفترض أن مهمة المقدرة اللغوية هي – في الأصل- حفظ قواعد لغوية تكفل للإنسان صياغة جمل متكاملة، لا مجرّد خزن كلمات ومفردات لا رابط بينها".
ثالثاً- أثر ثنائية "اللسان والكلام" في الدارسات الأدبية والنقدية الحديثة:
لم يبقَ موضوع اللسانيات - كما حدّده فردينان دي سوسير- مقتصراً على "اللسان" أو "اللغة المعيّنة" التي هي مجموعة المفردات والقواعد المختزنة في أذهان أفراد الجماعة اللغوية الواحدة، بل امتدّ ليشمل "الكلام" أي الجانب الفردي المنجز، وهو يشمل المنجز اللغوي في إطار اللغة الأدبية الفنية.
لقد أشعّت المبادئ والقوانين اللسانية التي دعا إليها دي سوسير على النقد البنيوي الذي يعنى بالخطاب الأدبي، إلى درجة جعلت بعض الدارسين يسمّي النقد البنيوي بالنقد اللساني.
ويمكننا إبراز أثر ثنائية "اللسان والكلام" على الدراسات الأدبية والنقدية، فيما يأتي:
*اهتمام الشكليين الروس بثنائية "اللسان والكلام":
لقد تأثر الشكليون الروس بلسانيات دي سوسير، وبخاصة ثنائية (لسان وكلام) ويظهر ذلك بصورة جليّة في مقال نشره جاكبسون وتبنيانوف، جاء فيه أنّ "وضع مفهومين مختلفين كلام ولسان، وتحليل علاقتهما عمليتين جدّ مثمرتين بالنسبة للّسانيات [...] إنّ الباحث الذي يعزل هذين المفهومين يشوّه لا محالة نظام القيم الفنيّة، ويهدر إمكانية إقامة قوانينه الملازمة".
وقد أدّى ذلك إلى التمييز بين اللغة العادية (القاعدة الموجودة، الملكة الجماعية) واللغة الشعرية (العبارات الفردية، فعل الإبداع)، وكان التمييز بين اللغة الشعرية واللغة اليومية (العادية) من أوليات الشكليين الروس، فهي المرحلة الأولى في دراستهم، وبذلك نجد اللسانيات "تمنح الشعريّة منطلقاً لتحديد موضوعها، فاللسانيات انبثقت من الثنائيات السوسيرية، ولا سيما ثنائية "اللغة والكلام" اللغة بما هي الوجود داخل عقل المجموع، والكلام بما هو استعمال شخصي محسوس، وطبقاً لهذه الثنائية تتكون، على مستوى الشعرية، ثنائية: الأدب والكلام الأدبي، يكون الأدب في ثنائية الشعرية بمنزلة اللغة في الثنائية اللسانية، بينما يكون الكلام الأدبي في الأولى بمنزلة الكلام في الثانية".
لقد اعتمد المشتغلون بالشعرية- متأثرين بثنائية دي سوسير اللسانية "اللسان والكلام"- على ثنائية "الأدب والكلام الأدبي" فالأدب في الثنائية الشعرية بمنزلة اللسان في الثنائية اللسانية، بينما الكلام الأدبي في الشعرية بمنزلة الكلام أو الخطاب في اللسانيات.
إنّ من أهم منجز حلقة براغ – إلى جانب دراسة القوانين الصوتية- اهتمامها بتحليل لغة الشعر؛ وتفريقها بين الخطاب الأدبي الشعري؛ والخطاب العادي التواصلي، إذ إن الخطاب الشعري عمل فردي يرمي إلى الخلق والإبداع، فهم يرون أنّ الخطاب الشعري كلما ابتعد عن الخطاب التواصلي والتفاهمي تعارض مع التقاليد الشعرية، وابتعد عن حيوية الخلق العفوي.
وبهذا شكّلت " ثنائية "اللسان والكلام" ضرورة وقفزة في الآن ذاته للدراسات اللغوية، ولكن تطبيقها، حسب جاكبسون وتبنيانوف، مسألة شائكة، فعزل الجملة الأدبية لا يؤدّي إلى معالجة ناجعة، كما هي الحال في عزل الجملة اللغوية، ذلك أنّ الجملة الأدبية ترتبط فنّياً بقيم الجمل الأدبية الأخرى، فضلاً عن الربط البنيوي بينهما، ولهذا فالعزل " يشوه لا محالة نظام القيم ويهدر إمكانية إقامة قوانينه اللازمة".
|
|
|
|
|