للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

التعدد اللغوي ودوره في إثراء اللغة العربية

د. سليمان علي عبد الحق

      اللغة " أصواتٌ يعبر بها كل قوم عن حاجاتهم " ، على حد قول ابن جني ( ت 392 هـ) ، كما أنها " ملكةٌ فطرية تمكن المتكلم بها من تكوين جمل نحوية وصرفية صحيحة " ، على حد قول نعوم تشومسكي ، ومن هنا فإن أهمية اللغة لا تكمن في مجرد كونها وعاءً للثقافة والحضارة فحسب ، ولا في كونها أداة للتواصل بين أبنائها أو المتحدثين بها ، ولكن أهميتها الكبرى تكمن في كونها محدداً رئيساً لهوية الشخص المتكلم بها ، خاصة عندما يكون ابنا لها Native Speaker .
    ومن هذا المنطلق يمكن أن ندرك أهمية دراسة التعدد اللغوي ، وأثره على اللغة الأم ، بل على الاقتصاد القومي لأي أمة ؛ باعتبار أن اللغة صارت الآن سلعة تبادلية على مستوى الأداء ، والترجمة ، بل الإبداع ، وينبغي الإشارة إلى أن مصطلح التعدد اللغوي قد يختلط في أذهان بعض الباحثين بمفهوم مصطلحات أخرى وثيقة الصلة به ، ومنها على سبيل المثال : الازدواج اللغوي ، و التعدد اللهجي ، والثنائية اللغوية .
  فالازدواج اللغوي ظاهرة موجودة في سائر اللغات منذ أن ألهم الله ، تعالى ، الإنسان اللغة ، وعلمه كيف يتواصل مع بني جنسه ، عن طريق أصوات يعبرون بها عن حاجاتهم ، ونقصد بالازدواج اللغوي أن يكون للمجتمع مستوى لغوي فصيح  يتداول به الناس المعلومات والمكاتبات الرسمية ، ويكتب به المبدعون من الشعراء والكتاب ، بالإضافة إلى وجود مستوى لغوي آخر ينتشر على ألسنة العامة ، فيتواصلون به في الأسواق ، واللقاءات غير الرسمية ، ويكون لغة التخاطب بين الأفراد في المنزل .
      والازدواج اللغوي – بهذا المفهوم - ليس حكراً على اللغة العربية وحدها دون غيرها من لغات الشعوب الأخرى ، كما ادعى بعض رجال الفكر في أواخر سنة 1881 م  ، فاتهموا العرب بأنهم أمة تعاني مرضا لغويا اسمه " الازدواج اللغوي " ؛ فهم يكتبون بلغة ، ويتواصلون فيما بينهم بلغة أخرى مختلفة عن لغة الكتابة أو الإبداع ، صوتيا ، وصرفيا ، ونحويا ، ودلاليا .
     وسرعان ما أصبح زعمهم  دعوة لتوحيد العرب على لغة واحدة للكتابة والتعبير ؛ وهي اللغة العامية أو اللهجة العامية التي تنتشر على ألسنة أغلب العرب في كثير من الأقطار العربية . وكانت حجتهم في ذلك أن اللغة الفصحى لغة قديمة محدودة بحدود التأليف أو الكتابة الرسمية ، وأنها أصبحت مهجورة على ألسنة الأجيال الجديدة في العصر الحديث ، فهي غريبة عنهم ، وهم غرباء عنها ، حتى أن أكثرهم صار يستعين بألفاظ لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية في أثناء حديثه بالعربية ، ليوضح معنى ما أو يشير إلى مدلول معين .
    والذي يقرأ ما كتبه كثير من هؤلاء الزاعمين يدرك أن هناك هدفاً واحداً سعى إليه أصحابه بكل وسيلة ، وهو محاربة الفصحى والتخلص منها ، ( فهم تارة يدعون إلى العامية دعوةً صريحةً ، وهم تارة أخرى يدعون إلى التوسط بين الفصحى والعامية ، وتارة يدعون إلى فتح باب التطور في اللغة ، والاعتراف بحق الكتّاب في تغييرها كيفما كان هذا التغيير ، وإلى أي مذهب ذهب )  .
    ومن المؤسف أن كثيراً من دعاة العامية قد نسوا أو تناسوا ، أو بالأحرى لم يفطنوا إلى أن اللغة العامية هي ابنة شرعية للغة الفصحى ، ففيها كثير من الملامح اللغوية للفصحى على كافة المستويات الصوتية ، والصرفية ، والنحوية ، والدلالية ، ولكنها تنحرف عن بعض القوانين الصارمة للفصحى لتجد لها متسعا من الحرية على ألسنة العوام الذين لا يعرفون قواعد النحو أو الصرف ، أو الكتابة والقراءة أحيانا .
    وقد عاشت العامية إلى جوار الفصحى في جميع مراحل تاريخ الحضارة العربية قديماً ، ولم تسبب لها حرجا ، أو تطغى على مجالات اهتمامها ، أو ترغب في محوها والانفراد بالتعبير ، أو بمعنى أوضح ، إن اللغة الفصحى قد عايشت اللغة العامية أو اللهجات الإقليمية قديماً منذ العصر الجاهلي ، فالعصر الإسلامي ، فالعصر الأموي،  فالعصر العباسي ، فالعصر المملوكي دون أن تظهر مثل هذه الدعوات لهدم الفصحى أو اتهام العرب بأنهم مصابون بمرض الازدواج اللغوي .
   فهذه الدعوات لم تظهر سوى في العصر الحديث ، وقد أزكى أوارها الاستعمار الغربي الذي سعى إلى تهميش هوية الشعوب العربية ، وهدمها ، بإبعادها عن وعاء ثقافتها ، والرابط الوثيق الذي يؤلف بينها ، ويعبر عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، وهو اللغة العربية الفصحى .
     أما التعدد اللهجي ، فيعني وجود لهجات متعددة داخل اللغة الواحدة ، وأغلبها فصيح ، ويرجع اختلاف هذه اللهجات فيما بينها إلى تنوع البيئات الجغرافية ، أو الأصول القبلية ، مثل تلك اللهجات المتعددة التي انتشرت في شبه الجزيرة العربية إبّان العصر الإسلامي ، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يخاطب كل قبيلة بلهجتها، مثل ما ورد في الحديث الشريف : ( ليس من امبر امصيام فمسفر )  ، فقد خاطب به الرسول – صلى الله عليه وسلم بعض أهل اليمن ، وكانوا يستبدلون في كلامهم أداة التعريف (أم) بـ (أل).
    وأبرز مظاهر التعدد اللهجي تلك القراءات المتعددة للقرآن الكريم ، فالمشهور منها سبع ، وقال بعضهم : عشر ، وأوصلها آخرون إلى أربع عشرة قراءة .
   أما ثنائية اللغة ، فمعناها تعلم لغة ثانية تضاف إلى اللغة الأم، وهنا نطرح بعض الأسئلة مثل : متى ينبغي تعلم هذه اللغة؟ وهل تعلمها يكون بالمستوى نفسه الذي تحتله اللغة الرسمية؟ كيف ننظر إلى الشخص ثنائي اللغة ؟ وهل مفهوم الثنائية يرفع المتعلم إلى تحقيق التكافؤ بين اللغتين معاً ، أم أنه يدرج الترجمة ضمن برنامجه التعليمي لتحقيق هذه  الثنائية ؟
       ويمكن أن نلخص الإجابة عن كل تلك الأسئلة بقولنا : إنه عندما نحل مشكلات لغتنا القومية على المستوى الصوتي ، والتركيبي، والنحوي ، والدلالي ، والمعجمي ، و نفعٍّل العمل بها في مؤسساتنا ، وتخاطبنا اليومي بما ينفع الناس ؛ أي في الإدارة ، و الإذاعة ، و التلفاز، و الإعلام المكتوب ، و كل البرامج المقدمة ، و في حوارات السياسيين ، واجتماعاتهم ، وكتاباتهم ، وتنظيرهم ، و عند الأطباء ، و في التعليم ، و تدريس العلوم الطبيعية ؛ كالطب والفيزياء ، والكيمياء ، والهندسة ؛ عندئذ يحق لنا بكل جسارة الإقبال على تعلم لغة ثانية  ، لا لجعلها لغة رسمية ، واعتبار اللغة الرسمية الأم لغة إبداع أو مخاطبات رسمية فقط ، كما هو شائع في كثير من الدول المستضعفة أو المغلوبة أو التابعة أو المشتتة ، وإنما لجعلها لغة ثانية فقط على مستوى التعلم و التعليم و التثقيف.
    أما التعدد اللغوي فيعني  امتلاك المتكلم ، بشكل عام،  لأنظمة لغوية متعددة ، بهدف الاستفادة من تلك الأنظمة في أغراض عدة ؛ مثل : التعرف على عادات أهل تلك اللغات وتقاليدهم ، وقيمهم ، وأفكارهم ، وحضارتهم ، ودراسة خصائص لغة الإبداع عندهم ، والاستفادة منها في المقارنة بين آداب تلك اللغات والأدب القومي في إطار ما يسمى حالياً بالأدب المقارن ، وكذا للبحث عن العلاقات اللغوية ، ومعرفة أصل اللغات ، والانفتاح على ثقافات تلك اللغات ، وإثراء مجال الترجمة بينها وبين اللغة الأم .
     ومن هنا يتضح أن التعدد اللغوي يمكن أن يكون أداة بناء للمجتمعات ؛ وذلك من خلال اعتباره نافذةَ انفتاحٍ على ثقافات الأمم الأخرى وخبراتها ؛ وفق مفهوم التوازن والتواصل الدقيق ، وبما يفيد تلك المجتمعات ، و يبعث فيها أمل بناء مستقبلها بشكل صحيح ، وترتيب أهدافها بحسب الأهم فالمهم ، و كل ذلك من خلال الفهم الواضح لجدوى ذلك التعدد اللغوي ؛ باعتباره اللبنة الحقيقية والأولى نحو هذا البناء ، و الانفتاح على السواء.
       فكثير من المجتمعات التي عانت الظلم و القهر و الاستبداد ، خاصةً دول العالم الثالث أو كما يسمونها بالدول النامية ، استفاقت ، مؤخراً ، على منظومة التعدد اللغوي خياراً وحيداً من أجل بناء أو إعادة بناء مجتمعها بناءً قوياً.
     وهذا الأمر ليس مقصوراً على الدول النامية فحسب ، بل يشمل كل أمة تريد أن تحافظ على هويتها ، ومكتسباتها الثقافية ، وموروثها الفكري ، بل ترفع من قيمتها بين مصاف الأمم الحديثة ، ولنأخذ على سبيل المثال اليابان؛ تلك التي انطلقت في تحديث بلادها منذ فترة الإصلاح الميجي بين سنوات (1868-1911م ) ، و منذ ذلك التاريخ بدا العمل بجدٍ و مثابرة و استمرارية وبكل تفانٍ ، حيث كانت نظرة اليابانيين جد متطلعة نحو مستقبل أفضل على جميع الأصعدة : سياسياً ، و اقتصادياً ، و صناعياً ، و لغوياً . و لذا تعد اليابان اليوم من الدول الكبرى و المتقدمة على جميع الأصعدة ، رغم بنية تضاريسها المتقلبة ، وكثرة البراكين والزلازل التي تجتاحها. كل ذلك بفضل سياستها اللغوية الناجحة ؛ التي خلقت فرصاً كثيرة نحو تعدد لغوي راقٍ ؛ فاليوم نشاهد الياباني يتحدث لغاتٍ متعددةً رغم صعوبة لغته ؛ كالإنجليزية ، والفرنسية ، والإسبانية ، والعربي، دون أن يتعارض ذلك مع اللغة اليابانية الأم .
     كما أن الصين ، ذات المليار والثلاثمائة مليون نسمة ، التي تجتاح العالم برمته : أسواقه ، ومعارضه ومهرجاناته ، استطاعت أن تتأقلم مع كثير من الثقافات ،  السياسات ،  المجتمعات بفعل انفتاحها على لغات أخرى ، و فهمها لثقافات الآخرين و حضارتهم و خبراتهم ، بما لا يتعارض مع اللغة الصينية الأم ، أو هويتها وقيمها الراسخة.
      وبعد : فما أحوجنا ، نحن العرب ، هذه الأيام إلى أن نعيد النظر إلى لغتنا الأم ؛ اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم ، وأن نضع خطة إستراتيجية لغوية ناجعة لمعالجة مشكلاتها الصوتية ، والصرفية ، والنحوية ، والدلالية ، وأن نفعل التحدث بتلك اللغة في كافة المخاطبات الرسمية ، وأبرزها وسائل الإعلام بأنواعها كافة ؛ المرئية ، والمسموعة ، والمكتوبة ، وكذا في قاعات التعليم والتعلم ؛ بدءاً من مرحلة الروضة ، حتى نهاية المرحلة الجامعية ، ثم بعدها نشرع في الانفتاح و الاستفادة من خبرات الأمم الأخرى وثقافاتها ولغاتها عبر هذا الجسر اللغوي القوي الذي يسمى بالتعدد اللغوي ، الذي يعد أداة رصينة من أدوات إثراء اللغة الأم .





التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية