|
|

لغتنا العربية الأُولى والأَولى
د. بلال كمال رشيد
ما من شكٍ في أنّ العولمة قد فرضت سياستها متعديةً الحدود ومعتديةً على الخصوصيات المجتمعية والدولية ، وسيطرت في ظل هذه الهيمنة على اللغات فميزت ومايزت ، وقدمت وأخرت ، وجعلت اللغةَ الدخيلةَ سيدةً وأُماً رؤوماً لكل متحدث بها ، تُقدمهُ وتُميزهُ ، وترفع من شأن كلِّ من يَرفعُ من شأنها ، وأصبحت لغةً واحدةً مُوحدةً لكلِّ ذي لسان وشأن ، وأصبح العربيُّ – في بلده -غريبَ الوجه واليد واللسان إنْ بقيَّ عربياً ، وأصبح الغريبُ الغربيُّ – في البلاد العربية- أليفاً ومؤتلِفاً وهو لا يعيشُ غُربةَ مكانٍ، ولا غرابةَ لِسانٍ ، فبفضل اختراعاته من وسائل الاتصال لم يعد مغترباً ، وبفضل سياسته أصبح مُهاباً مُحترماً ، وحيثما سعى أو نَظَرَ فإن لُغتهُ حاضرةٌ مقروءة ومكتوبة ومحكية ، تُصيبه ويُصيبها حيث يكون أو لا يكون ،فماذا جَنتْ لُغة المدينةِ والمَدنيةِ ، ولغةُ العولمةِ على لُغتنا التي لم تَبْقَ لُغةَ القريةِ والصحراء ، و هي تنخر حيث تقيم ، تضع أُساساً لها ، وتهدمُ أُسساً لنا ، تُغير حروفاً ورسوماً وأصواتاً ، حولت لسانَ بعضِ قومنا من لسانٍ عربيٍّ مُبين إلى لسانٍ ذي عوجٍ وغنجٍ ، تقرأُ الألفاظَ عربيةً وتراها بحروفٍ إنجليزية ، وتسمعُ الألفاظَ عربيةً وتقرؤها عربيةً وقد تغير رسمها وايقاعها ووقعها ، فلا تُفرق بين السين والصاد ( بردٌ قارصٌ أو قارس ) ولا تُفرق بين صوت الهمزة والقاف
( طارق ، طارىء)، وتجد مفرداتٍ أُشبعت مداً ومطاً :(أنتي ، لكي ) ، وأما في النحو والإملاء فثمة حديثٌ هناك يطول بلا حرج !!!
ولك أن تتجول في أية مدينة عربية ؛ لتجد الحرف الغربيَّ يُجاورُ الحرفَ العربيَّ بل قد يجور عليه ، ولا يُبقي له مكاناً ولا مكانةً ، وفي المقابلِ تَجوّل في أيةِ مدينةٍ غربيةٍ لن تجد إلا لُغةَ أهلها سائرةً وسائدةً ومُتسيدةً ، وإن وجدت غيرها فإن اللغة تكون بحد ذاتها إعلاناً واحتراماً لخصوصيةِ المكان وصاحبه !
رحم الله شاعرنا العربيَّ حافظ إبراهيم الذي تكلم بلسان العربية ونعاها قبل عشرات السنين ، وقبل ثورة الاتصالات والتقنيات الحديثة، فماذا عساهُ اليوم يقول ؟؟!!
لم تكن اللغةُ العربيةُ حبيسةَ أسطرٍ وأغلفة كتب ، بل كانت لسان فكرٍ وتخاطب، و اتصال وتواصل، وكانت لسان العاميِّ كما كانت لسانَ العالِم ، لسانَ الفرد والأُسرة والمجتمع والدولة والأُمة ، لسانَ الجامع والجامعة والمجتمع ، لسانَ الذات إذا انكفأتْ ولسانها إذا انطلقتْ ، لسانَ القرية والمدينة والحضارة ، تستوعب كلَّ مستحدثٍ ، وكانت لسانَ الدين كما كانت لساناً لعلوم الدنيا قاطبةً ، فكانت هي الهوية والخصوصية والحضارة والوجود ، وعندما بدأنا بالتخلي عنها ، وبالتحلي بغيرها ، فقدنا شيئاً من خُصوصيتنا وهويتنا وحضارتنا ووجودنا داخل بلادنا ، وبِتْنا غُرباءَ الوجهِ واليدِ واللسان !!!
كيف لك أن تُفسر انصراف العربيِّ عن عربيته ، وانصراف الغربيِّ إليها: تعلماً وتعليماً، وتحدثاً واستماعاً ؟؟!!!
إننا نشجع تعلم اللغات الأخرى وأن نواكب العصر دون طمسٍ لهويتنا وخصوصيتنا، نُريد لدولنا العربية أن تُحافظ على سمْتها العربيِّ ، وأن تكون مَرافقها ومُؤسساتها وشوارعها وكلُّ شرايينها وتشريعاتها ناطقةً بالعربيةِ اسماً ومسمى ، وهنا نتوجه بالشكر والتقدير للقائمين على المشروع الوطني للدفاع عن اللغة العربية في الأردن وهم يتابعون أمانة عمان في نظام تسمية المحال التجارية ، وفي تفعيل الدستور الأردني فيما يتعلق باللغة ، كما يُشكر مجمع اللغة العربية الأردني وهو يعقد المؤتمرات ، ويُساهم - مع مجامع اللغة الأخرى - في إيجاد المُقابل والبديل العربيِّ لكلِّ مصطلحٍ أجنبي ، والشكرُ لبعض الأساتذة الجامعيين الذين جعلوا العربيةَ لسانَ حالٍ ومقالٍ وتدريس ، وليت الجهود تجتمع وتتكاتف وتتحد ، وليت مجتمعنا يقف وِقفة رجلٍ واحدٍ ؛ ليعمل على توظيف اللغة العربية وحمايتها ، لا نُريد أن نبقى نتغنى بمجد لغتنا السابق ، ولا أن نَجلد الذاتَ بــ (ليت) وجُمل التمني ، نُريد لهذا المشروع الوطني أن ينجح ، ولهذه الجهود المتناثرة أن تجتمع ، ونُريد لهذا الجيل أن ينصرف إليها عِلْماً وعملاً ، وأن نَعمل سويةً لكي تكون العربية هي الأُولى والأَولى.
|
|
|
|
|