للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

القراءة وترقية الذات

د. محمد سعيد حسب النبي

في ظلال كلمة اقرأ:
"اقرأ باسم ربك الذي خلق(1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم(3) الذي علم بالقلم(4) علم الإنسان ما لم يعلم(5)" (العلق، 1-5) بهذه الكلمات ذات الدلالات العلمية بدأ وحي السماء على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وهي آيات لا تخلو من دهشة وتدعو للتساؤل.. لماذا بدأ الوحي بكلمة اقرأ؟ ولطالما سألت نفسي هذا السؤال.. لماذا..؟ لأنه بقليل منطق يتضح أن آية أخرى كانت أحرى أن يُبتدأ بها الوحي، وهي قوله تعالى:"قل هو الله أحد" لماذا؟ الإجابة: لتأتي مناسبة للسياق الشائع في ذلك الوقت، وهو تعدد الآلهة، وليسمح لي القارئ بتأمل هذا المثل – ولله المثل الأعلى- إذا دخلت بيتك ووجدت أبناءك يتشاجرون فيما بينهم فما أول كلمة أو أمر ستبدأ به؟ لاشك أن أول أمر سيكون اصمتوا، أو انتهوا .. أوغيرها من الأفعال التي تأتي متناغمة مع الحدث، ولا يتوقع أن تقول لهم: كلوا .. أواقرأوا،  لأن الفعل لا يتناسب مع الحدث، وهكذا في سياق الحديث عن فعل الأمر "اقرأ" في وقت انتشر فيه تعدد الآلهة، ولكن جاء فعل الأمر "اقرأ" بعيداً عن سياقه، ولعل بعضنا يتساءل فيقول: ربما كان مقصد الآية تعلم مهارات القراءة حيث كان العصر يوسم بالعصر الجاهلي. وهذا غير صحيح؛ فجاهلية ذلك الوقت كانت جاهلية في الخُلق والطبع، وعصبية فرضتها طبيعة الزمان والمكان الذي وجد فيه العربي آنذاك، ومن المعروف تاريخياً أن من العرب من كان يستطيع القراءة والكتابة، وكان من بينهم كُتاب الوحي، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل في مقام آخر.
إذن الأمر الإلهي اقرأ له مبرر ظهور، ومن وجهة نظري جاء هذا الفعل ليؤرخ لبداية عصر جديد وهو عصر المعرفة والعلم، وأن من يزعم أننا نعيش الآن عصر العلم، نقول له: عصر العلم بدأ منذ أمد بعيد، بدأ مع عصر النبوة ومع كلمة اقرأ التي بدأ اتصال الأرض بالسماء.
ثم تأمل كلمة (علق) وكلمة (عَلًّم) نجد أن العلاقة بينهما تحتاج إلى تأمل، حيث إن العلقة هي أدنى مراتب الإنسان وهي من المراحل الأولى في خلقه، ثم انظر لكلمة (عَلَّم) نجد أنها أعلى مراتب الإنسان وأشرفها .. أن يكون عالماً، وكأن الله تعالى يقول: تأمل حالك حين كنت علقة، وإلى آخر حالك حين صرت ناطقاً عالماً بحقائق الأشياء، ولا يمكن الانتقال بين الحالتين إلى بتدبير الخالق أولاً ثم بالتوسل بالقراءة ثانياً، ومن هنا نجد أن للقراءة دوراً فطرياً في تطور الذات وترقيها.
  القراءة والراحة النفسية:
عرض ابن جني – وهو أحد علماء اللغة النابغين- مفهوم الاشتقاق الكبير بيَّن فيه كيف يمكن أن تتغير حروف الكلمة مع وجود علاقة بينها حتى بعد التغيير، ولو طبقنا هذا المبدأ على مادة (قرأ)، بمعنى لو غيرنا في حروفها، فسنجد ثلاثة ألفاظ هي: (أرق – قرأ – أقر)، فهل هناك علاقة بين هذه المفردات؟ الإجابة: نعم .. حيث إنه الأرق الناتج عن عدم المعرفة.. وهو أرق جربه كل من جهل أمراً ما، وغابت عنه معرفة يحتاج إليها، ولكي يصل هذا الإنسان لمرحلة الهدوء، ويقر – من أقر أي ارتاح وسكن– بالمعرفة، لابد أن يسعى لمحو هذا الجهل، ومن بين وسائله المهمة في ذلك.. القراءة، ومن هنا نجد كيف أن القراءة كانت سبيلاً لراحة الإنسان واطمئنانه وقراره، ولو استكملنا الاشتقاق بمزيد من الإبدال سنجد كلمة (رقا) وهي من الارتقاء والارتفاع؛ أي أن القراءة كانت سبباً في عملية الارتقاء المعرفي والنفسي للإنسان.
القراءة والنشاط العقلي:
تشير بعض الدراسات إلى أن الإنسان إذا أعرض عن القراءة يُصاب بما يعرف بالكسل العقلي، ولكن ما سبب هذا الكسل؟ لو تأملنا حال الإنسان بعد ميلاده سنجد – وكما يرى علماء النفس – أن عقله صفحة بيضاء يخط فيها الكبار سمات شخصيته التي سيتعامل من خلالها مع بيئته ومجتمعه في قابل الأيام، هذا الطفل عندما يبصر أمه وتتحدد ملامحها وينبني مفهوم الأمومة لديه يبدأ عقله بإنشاء مجلد – كما هو الحال في الحاسب الآلي- ويسميه الأم، وكذلك الحال بالنسبة للأب، وجماعة الأخوة والجيران يبني الطفل لكل مفهوم منها مجلداً، ثم بعد التحاق الطفل بالمدرسة، يبدأ في تكوين مجلدات جديدة للمعارف التي يكتسبها في المدرسة، وكلما أخذ موضوعاً له علاقة بالأم يبدأ في إدخال ملف جديد لمجلد الأم، وإذا اكتسب معرفة لها علاقة بالجيران وضع ملفاً جديداً في مجلد الجيران، وهكذا يستمر حال الإنسان ما بين إنشاء مجلد لمعرفة جديدة، وإضافة ملفات لمعارف سابقة، ثم العملية الأهم والأخطر من ذلك هي إيجاد علاقات بينية بين المجلدات والملفات المكتسبة، مثال ذلك: لو أنشأ الطفل مجلداً للدين، ثم وجد أن الدين يحض على بر الأمهات، فيربط من فوره بين مجلد الأم الذي سبق إنشاؤه، ومجلد الدين، هذه العلاقات البينية بين المجلدات العقلية – إن صح التعبير- هي التي تحرك العقل، وهذه الحركة العقلية إذا ما أردنا تنشيطها فعلينا بالقراءة المتنوعة في أكثر من مجال، وبالتالي ستنشط عقولنا وستجري العمليات البنائية للمجلدات الجديدة المرتبطة بمعارف جديدة، والملفات المعرفية لإثراء المجلدات العقلية، ثم الروابط فيما بينها، ومن هنا يتضح أن البعد عن القراءة لا يحرك العقل فحسب بل يجعل معرفته محدودة، ونشاطه قاصراً.
ماذا نقرأ؟
كثيراً ما نتساءل .. ماذا نقرأ؟ ولقد سئلت هذا السؤال مراراً وتكراراً من قِبل طلابي، وحتى زملائي وأصدقائي، وتكون إجابتي وفق هذا النسق: لابد أن نفرق بين أمرين؛ بين ما يجب أن نقرؤه ، وما نحب أن نقرؤه،  فهناك أنواع من القراءة الواجبة.. وهي القراءة في الدين على سبيل المثال، والطالب في المدرسة لابد أن يقرأ مقرراته الدراسية، والعالم يجب أن يقرأ في مجال علمه حتى يضمن لنفسه النمو المعرفي والعلمي المستمر.. وهكذا الحال، ثم هناك ما نحب قراءته، وهي المجالات المتعلقة بالهواية، والميول الشخصية والنفسية، فمن يحب تربية الطيور يجب أن يقرأ عنها، ومن يحب الصيد لابد أن يقرأ عنه لتمنية هوايته وترقيتها، وكذلك من يحب الشعر، والقصص، كل أولئك لابد أن يحرصوا على القراءة في مجال ميولهم، ولكن المشكلة في الإعراض عن القراءة بوجه عام، وهذا أمر عجيب.. أن أمة اقرأ لا تقرأ، وأسباب الإعراض كثيرة، قد نناقشها في سياق آخر.
ترقية الذات .. العقاد نموذجاً
أشرت منذ قليل إلى الترقية الفطرية التي تحدث للإنسان من طور العلقة إلى طور العلم في الآية القرآنية الشريفة التي افتتحت بها مقالي، هذا الترقي في أطوار الإنسان منذ مراحله الجنينية الأولى إلى مرحلة العلم والمعرفة التي شُرِّف بها على غيره من الكائنات الحية .. ضمانته القراءة، والقراءة أيضاً تضمن لك ترقياً من نوع آخر، ترقياً بين العالمين من الناس، فهذا هو العقاد، الحاصل على شهادة الابتدائية تلك الشهادة التي تضمن الحد الأدني من التعليم وهو: القراءة والكتابة، وبعض عمليات الحساب، لكنه لم يقف عند هذا الحد، وإنما سعى إلى مزيد من الترقي، فكان عاشقاً للقراءة في كل مجال من مجالات المعرفة الإنسانية، حتى أنه كان يضاهي رجالات عصره العلماء من أصحاب الشهادات العالية في التعليم إن لم يفقهم علماً ومعرفاً وثقافة، وأسوق هنا قصة تبرز لنا تفوق العقاد على نظراء عصره في العلم والمعرفة، في أحد الأيام وفي صالون العقاد الذي كان يعقده بانتظام في بيته، وكان يحضره الكثير من أساتذة الجامعة والباحثين والمثقفين، سأله أحد الأساتذة المرموقين الذي تخصص في الفلسفة الوجودية، والتي كانت علماً حديثاً يدرس في الجامعة في خمسينيات القرن الماضي، سأله هذا الأستاذ متحدياً، يريد أن يكشف للحضور أن العقاد يجهل شيئاً من المعارف العصرية التي كانت تتردد في تلك الآونة، فقال له: يا أستاذ ماذا تعرف عن الفلسفة الوجودية؟ فقال له العقاد: ماذا تعرف أنت عنها؟ فأجاب الرجل أنا متخصص فيها وقرأت كل ما كتب عنها وهي ثلاثة كتب فقط، فضحك العقاد، وقال لخادمه: أحضر الكتب الموجودة على سريري، فأحضر الخادم سبعة كتبت في الوجودية كان يقرؤها العقاد، ثم أسهب في الحديث عنها بكثير من التفصيل والتحليل والنقد مما أدهش الحضور جميعاً ومن بينهم الأستاذ الجامعي المتخصص.
سنة حياة:
كل منا يرى الغرب ومدى حرصه على القراءة في الحدائق والشواطئ وأماكن المواصلات وغيرها، لا لشيء إلا لعلمهم التام بدورها في النمو الشخصي والمعرفي، ونحن أحق منهم بذلك فنحن أمة (اقرأ) ، فيجب أن نجعل من القراءة سنة حياة، امتثالاً لأمر الله، وضمانة للترقي الذاتي والحضاري بإذن الله.    



التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية