|
|

على قيد الكتابة
د. بلال كمال رشيد
لم تكن الكتابة ترفاً، ولن تكون إلا عند من لا يعرف قدرها، ولا يعرف قدره عند المتلقين كيف يكون . أصبحت الكتابة مَطيةً -عند بعضهم - يركبها متى شاء ، ويُحملها سمومه كيفما شاء ، وأضحت كلاماً عابراً يُعبر عن لحظةٍ آنيةٍ وذاتيةٍ ، وقد لا تُعبر عن شيء أبداً ، أمست – مع وسائل التعبير في التقنيات الحديثة - ممراً لكلِّ التائهين العابرين ، وباتت على حالة يُرثى لها ، مما أصابها من مرضٍ ووهنٍ ، ومن تشوهات في الفكر ، وأخطاء قاتلة في النحو والإملاء ، ودخول الغريب والدخيل والهجين في جسمها ، حتى تغيرت ملامحها ومعالمها ، وتغلب الداء على أي دواء .
الكاتب هو فكر الأمة ونبضها ، يقرأُ كثيراً ويقول قليلاً ، يتعلم ويُعلِّم ، يُفكر ، يتساءل ، يتأمل ، يُعايش الآخرين يتألم ويُؤمل ، يتروى قبل أن يروي ، ويتفهم قبل أن يُفهم ، ينتصر للحق والمنطق ، ويناقش أي موضوع بموضوعية ، لا يغض فكره وبصره عن جهةٍ دون أخرى ، ويُجلّي فكره وهو يحترم فكر
الآخرين ، حتى يكون كلامه حُجة له لا عليه .
الكتابة وِقفة و موقف ،فكر ورأي ، رؤية و رؤيا ، تعلم وتعليم ، تبصرة وتوعية ، تأخذ لتعطي ، تحكم وتحاكم ، وتلبس لبوس الحكمة.
الكتابة بوحٌ ونوح ، تطهير و تعبير ، بناء وتعمير ، وهدم وتدمير ، الكتابة تعبير عن الذات ، تعبير القلة عن الكثرة ، وحكي ومحاكاة للآخر، الكتابة تُغالب الكبت ، تسعى إلى التلميح حين يُعجزها التصريح ، تتخذ المجازَ جوازاً ، والكنايةَ كُنيةً ، تتوارى بالتورية ، وترى بالفكر والتأمل والتحليل ، وتبلغ بإيجازها وتبلغ هدفها ، وتُغْني بقليلِ لفظِها عن كثيره ، وتقول المعنى الكبير .
الكتابة هي أول الشيء وآخره ، هي آخر ما تصل إليه يدُ الكاتب ، و أول ما تصل إليه عين القارىء ، تنقطع عن الأول تحريراً ، وتدوم مع الثاني تحليلاً ، يموت الأولُ حقيقةً أو مجازاً ، ويُولد الثاني ويتكاثر ، وهو الذي يهب الحياة لنص الكتابة ما وهِب من الحياة!!
الكتابة هواية الكاتب ،وهواه ،وهويته ، صورته وصوته ، يحملها وتحمله ، يُشير إليها وتشير إليه ، ترتقي به ويرتقي بها ، وقد يهوي بها وتهوي به ، تموت الكتابة إذا لم تقل شيئاً ، تموت إذا لم يتلقها متلقٍ هنا أو هناك ، تموت إذا انطوت على نفسها ، وكانت نرجسيةً في نظرها ، حين لا تجعل السياقَ إلا لِساقها ، وحين لا ترى الزهور إلا في زَهْرها ، تموت الكتابة تتلاشى إذا بقيت في رحاها ، تقتل غيرها وتفتك بحالها .
الكتابة حالة فكرية متجددة ، حياة ، تتغذى على القراءة والنظر والتأمل ، تعيش مع الحواس الإنسانية ، تختزل الزمان والمكان بحروفها ، بل هي قراءةٌ في السطور وما وراءها ، القراءة هي التي تعطي الكتابة قوتها ومذاقها ، هي التي تُحلق بها في فضاء أرحب وأوسع ، هي التي تجعلها تنظر وتُناظر ، وتُقارن وتُقارب ، وتُجاور وتُحاور ، هناك تتسع الرؤيا ولا تضيق ، هناك تكون القراءة عن علمٍ ، والكتابة عن تبصرةٍ.
للكتابة أهلها كما للطبِّ أهلهُ ، فثمة مسؤولية ، وثمة حياة وموت ، فليتقِ الله الذين يكتبون ، لينتصروا للحق ، ليكتبوا كلمةً تبني ولا تهدم ، ليقولوا شيئاً جديداً مفيداً، ليحلقوا في فضائهم الذي غزته الغربان من كل صعيد ، لِيلحقوا ويتابعوا
كُتابنا وأدباءنا وعظماءنا الذين بقيت كلماتهم حيةً مثمرةً وإن رحلوا !!
|
|
|
|
|