|
|

أزمة الشعر العربي المعاصر، وعلاقتها بأزمة الفصحى
د. سليمان علي عبد الحق
كانت القبائل العربية في العصر الجاهلي تفخر بشعرائها ، وكانت تقيم الأفراح أياماً ولياليَ كلما ولد لها شاعر مبدع ؛ وذلك لأن الشاعر القديم كان ناطقاً بلسان القبيلة ، ومعبراً عن حالها ، ومذيعاً لمفاخرها ومآثرها ، أي أنه كان بمثابة "وكالة أنباء" صحفية بالمعنى المعاصر ، كما كان يحفز صناديد القبيلة بشعره الحماسي للذود عنها ، وأحيانا كان يصاحب المقاتلين في المعارك ، هذا فضلاً على إمتاعه جمهور المتلقين بمعانيه الخلابة ، ودغدغة مشاعرهم بصوره الفنية.
و كلما قرأت عن هذه المكانة التي حازها الشاعر القديم ، ولاسيما في العصر الجاهلي ، تساءلت : لماذا فقد شعراؤنا المعاصرون مثل هذه المكانة السامية ؟!
ولقد حاولت أن أبحث عن الأسباب الرئيسة وراء أزمة الشعر العربي المعاصر؛ فوجدت أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأزمة صاحبة الجلالة – اللغة العربية الفصحى – فلقد أصبحت العربية غريبة بين أبنائها ، تعيش فقط في الكتب والمعاجم ، ويلهج كثير من أبنائها بمآثرها الغابرة ، في المؤتمرات والندوات ؛ التي ينتهي أغلبها إلى لا شيء .
جفت الفصحى الرائقة على ألسنة كثير من أبنائها ، وأصبح أكثر الطلاب في مختلف المراحل الدراسية يتجرعون مفرداتها على مضض ؛ بسبب معلمٍ مبتديء لا يجيد تدريسها بطريقة صحيحة ، أو لأنه هو نفسه غير مجيد للعربية ، وفاقد الشيء لا يعطيه .
كما غابت الفصحى السليمة عن كثير من منابر الإعلام المعاصر ، سواءً في البرامج الإخبارية ، أم في البرامج الحوارية والندوات ، وأصبح هناك مذيعون ومذيعات يسيئون للعربية الفصحى صوتياً ، وصرفياً ، ونحوياً ، ودلالياً ، لدرجة جعلتنا نرجوهم أن يلهجوا بالعامية. ناهيك عن هذا التلوث اللغوي الفجّ الموجود في الشريط الإخباري أسفل كثير من القنوات المتلفزة . كما أن مواقع التواصل الاجتماعي قد أسهمت بشكل مزرٍ في تهميش الفصحى ، ونشر كثير من العجمة بين أبنائها الذين أضحوا يرددون ما يكتب فيها بطريقة عمياء ، و دون أي فحص أو تمحيص .
أما إذا عدنا إلى ما بدأنا به من الإقرار بوجود علاقة وثيقة بين أزمة الشعر المعاصر ، وأزمة الفصحى ، فحدِّثْ ولا حرج ؛ حيث أصبح الشعراء هذه الأيام غثاءً كغثاء السيل ، وما أكثر الكتب التي تحمل اسم "ديوان شعر " ، و "شاعر" ، وما هي من الشعر في شيء ، ولا أقصد من كلامي هذا ما يكتب باللهجة العامية ، بل ما يزعم أصحابه أنهم يكتبون بالفصحى ؛ فكثير من هذه الدواوين المزعومة لا تحمل من الشعر سوى اسمه وشكله ؛ حيث إنها تفتقر إلى أبسط قواعد فن الشعر وأسسه الشكلية والموضوعية ؛ فجلُّ ما يشغل هؤلاء المتشاعرين – إنْ صح أن نلقبهم بهذا اللقب – هو ضبط الوزن في الشعر العمودي ؛ الذي يتمثل في البحر العروضي ، والقافية الموحدة ، ولكن إذا ما حاولنا أن نبحث عن جماليات القصيدة ، لم نظفر يشيء ، وعدنا بخفيّ حنين ؛ حيث لا نحظى سوى بعدة ألفاظ مؤلفة بشكل متعسف وغير سوي ، بدت عليها أمارات التكلف والمعاناة ، كما أنها تفتقد لما نسميه في الشعر بـ"حسن التصرف" ؛ حيث إن الواحد من هؤلاء تملكه القافية ولا يملكها ، فيضحي بالمعنى في سبيل أن يأتي بكلمة رويُّها يطابق رويَّ القوافي السابقة ، غير مكترثٍ دلالة هذا اللفظ أو معناه .
ومن المؤسف أيضاً أن نجد كثيراً من أولئك المتشاعرين يبحثون عن مجرد لقب "شاعر" يدبٍّجون به سيرتهم الذاتية ، ويتفاخرون به في ندوة "مدفوعة الأجر" ، غير عابئين بما يرتكبونه من جرم في حق الشعر العربي ؛ حيث إننا نجد كثيراً منهم ينفق حفنةً من المال لإصدار ديوان شعر مزعوم ، ويحسن إخراجه وتجليده وبهرجته ، لكن القاريء عندما يشرع في قراءة أول قصيدة منه ، يمقت الشعر والشاعر معاً !
سبحان الله ، لو تأملنا السير الذاتية لأغلب الشعراء العظماء في أدبنا العربي ، بل في أغلب آداب العالم ، لوجدنا أن أغلب هؤلاء المبدعين نشأوا في بيئات فقيرة ، وعانوا شظف العيش ، وعركوا الأيام وعركتهم ، فنبهت قرائحهم ، وألهبت مشاعرهم ، وأنضجت مواهبهم ، فنطقوا شعراً وسحراً ، يملك الألباب ، ويأسر القلوب ؛ لما يزخر به من صدق التجربة ، وحيوية الخيال وخصوبته ، ولهذا لم يكن غريباً أن يقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ من البيان لسحراً ، وإنَّ من الشعر لحكمة ).
ولا أعمم رأيي السابق ، لكنني أرى أن أزمة الشعر العربي المعاصر يرجع سببها إلى مدَّعي الشعر أو المتشاعرين ، وهؤلاء بدورهم يسهمون في تعميق أزمة صاحبة الجلالة ، وينكأون جراحها ؛ برداءة شعرهم ، وإفلاس مخيلتهم ، بدلاً من أن يمدوها بمعين لا ينضب من الألفاظ والمعاني ، كما كان يفعل أسلافنا من الشعراء المفلَقين .
|
|
|
|
|