للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

قراءة في نص غياب للشاعر سيف الرحبي

أ. جاسم بن جميل الطارشي

تصدير..
"بما أن النص الأدبي الذي يتم العمل عليه هو نص مفتوح، يحمل بعدين: تدليلي وترميزي فإن العمل التأويلي (القراءة) يفيد من هذين البعدين في انجاز قراءته المنسجمة ، تلك القراءة التي تواجه نصا غير منسجم... فالعمل محدود بحدود النص، حين يستثمر المتلقي الجزء المكشوف في سبيل فهم الجزء الغامض، أي استثمار تدليلي واضح في سبيل الوصول الى الترميزي المستتر"  حامد بن عقيل، عصر القارئ: دارطوى للنشر، لندن ، 2009.
عند التوقف عند عنوان النص "غياب" باعتباره الجملة الدلالية الأولى التي يواجهها القارىء فإنه يستحضر ـ في البعد الدلالي المألوف ـ كل أشكال تلاشي الموجودات وموتها ، لكنه سيفاجأ وهو يقرأ النص، وسيصاب بخيبة أمل، لاتسببها إلا النصوص الابداعية، تلك الخيبة التي تكمن في مسافة التلقي الفاصلة بين البعد الدلالي للعنوان، وبين البعد الدلالي لمفردات النص الأخرى التي تعكس حضورا فاعلا يسري بين أوصال النص، حضورا يستدعي كل أشكال الحركة لأشيائه وموجوداته؛ فمن غياب "يحضر" تارة على شكل "موسيقى هائمة" تريد أن تحقق لها حضورا بارزا ببحثها عن انسجامها العميق، الى حضور لافت للغياب بما يتصف به من أزلية تفوق أزلية البحار! ، لكن هذا الحضور الأزلي مشروط بعبور غيمتي عيني المخاطبة الممتدة (محور النص) لهذا البحار فهذا الحضور يستمد أزليته من تجاوز غيمتي عيني للمخاطبة للبحار!.
بعد هذا الحضور الذي خرج من رحم الغياب، يأتي النص ليثبت حضور هذا الغياب "غيابك الذي لا يحضر إلا في السر وبالجسد بانقلاباته المفاجئة" فهو حضور له أجواؤه وطقوسه الخاصة (السر والجسد بانقلاباته المفاجئة)، وبعد هذا الاعلان الصريح لحضور غياب المخاطبة "محور النص" يلاحظ القارئ وهو يواصل رحلته مع مفردات النص اختفاء (غياب) مفردة "غياب" التي أخبرت عن تلك المخاطبة الحاضرة الغائبة ! لتحل محلها (تحضر) مفردات اخبارية أخرى (ضحكتك ، صداعك ، الأرق) مؤكدة على الحضور الفاعل الضاج بألوان الحياة والحركة (ترن بنبرة يمام بري ـ براكين خامدة في الرأس) وهذا الحضور الحي هو متاع الشاعر الذي يتقاسمه مع مخاطبته بعد أن وفرته فهو زاد الشاعر وصاحبته للحضور في غياب آخر هو (ليل العالم الدامي).
بعد ذلك الغياب (الحضور) الذي تدرج في حضوره وتنامى مع نمو النص ليبلغ أوجه مع نهايته التي تصرح بحضور مدوي للغياب فهو أكثر حضورا من عاصفة!.
بعد هذه القراءة الأولى التي استثمرت البعد الدلالي للنص في الكشف عن عدم انسجامه تأتي القراءة الثانية التي تستثمر البعد الرمزي للنص، والجزء الغامض بعد أن توسلت بالجزء المكشوف منه ـ والذي تولدت عنه المفارقات النصية والدلالية ـ لتحقق الانسجام للنص الابداعي الذي تذوب في أعماقه تلك المفارقات محققا بذلك انسجامه الرائع مع الكون وموجوداته.
من الملاحظ أن القراءة الأولى للنص أسلمت القارئ الى مجمموعة من التساؤلات والمفارقات الدلالية والتركيبية التالية، ستحاول القراءة الثانية الاجابة عنها لتحقيق الانسجام التام.
أولا: كيف يحضر الغياب بقوة بين تضاعيف الأشياء والموجودات؟!
ثانيا: ومن هذه المخاطبة الذي يحضر غيابها الأزلي أكثر من عاصفة؟
ثالثا: وكيف يمكن أن نوفق بين المفارقات التي انبنت على ثنائيتي الغياب والحضور؟
من هنا يأتي دور القارىء في الاصغاء الى نداءات النص الخفية معتمدا على حسه الجمالي ومعرفته الأدبية.
عند الرجوع الى النص نرى أن التصريح بحضور الغائبة كان في قول الشاعر "غيابك الذي لا حضور له إلا في السر" يقول محمد لطفي اليوسفي (1): "على مهل تنهض الكلمات، ويبدأ الهدير المكتوم، وتولد في السر القصيدة، والشعر يكون طافحا بالهدير مليئا بالاندفاعات".
فما هذه المخاطبة الغائبة إلا القصيدة "الكتابة الابداعية" لحظة المكاشفة والرؤيا "تلك اللحظة التي تتشح بالتعتيم وتتسربل في ثوب الغياب الحاضر بقوة داخل الذات المبدعة. بعد معرفة كنه هذه المخاطبة الغائبة الحاضرة يتحقق للنص انسجامه ذلك الانسجام الذي يتحقق في المستوى الرمزي للنص وبذلك تزول المفارقات وتذوب في بوتقة رؤيا النص التي تؤكد على حضور القصيدة الإبداعية زمن الإبداع ليخرج الحضور من رحم الغياب ذلك الغياب الذي يمثل الحضور الحقيقي القصيدة "الكتابة الإبداعية". وعند العودة إلى مفردات النص وتراكيبها وقراءتها في بعدها الترميزي يظهر لنا الانسجام بين" الظاهر والباطن بين المرئي واللامرئي" فما الغياب الذي يطالعنا به العنوان إلا حضور للقصيدة الإبداعية، وما الموسيقى التي تتركها غياب القصيدة "حضورها في زمن الإبداع" إلا الحياة التي تبثها الموجودات وفي اللغة الشعرية لتقف في وجه الموت والعدم "الصحراء" محققة بذلك الانسجام الروحي العميق لها وللموجودات، وما أزلية حضور مخاطبة الشاعر إلا رمز للإبداع الذي يتجاوز بحار العدم والموت ليخلق "بسره العميق والممتد أسطورته الأزلية الخاصة" وما تلك البراكين الخامدة في الرأس إلا الهدير المندفع الذي يحضر كأحد طقوس الكتابة الإبداعية الخفية. وأخيراً فإن هذا الحضور الذي يفوق العاصفة في تجليه ما هو إلا اشارة ورمز للكتابة الإبداعية المتجددة التي تعصف بذائقة التلقي الآسنة فهي ترفض ترك أي أثر أو مرجعية خارجية لها مهما كانت جذابة ومغرية لتبقى في حركة دائمة لاكتشاف ما لا ينتهي فهي لا تستقر في شكل معين، كما أن هذه الحركة تستمد حضورها من الباطن "الغياب" ذلك الحضور الذي "هو انفجار يحطم كل أشكال الفكر المألوفة، والأشكال المألوفة في التعبير والكتابة. انه نوع من الخرق يتعرف به الإنسان على الطبيعة الداخلية غير المرئية" (2).
وعند الوقوف على شعرية نص "غياب" نجد ما يتفق وهذه الرؤيا الإبداعية المتجددة " للقصيدة" فالنص يعكس لنا حضورا جديدا "للشعرية" وجمالية تتجاوز الجمالية الشعرية القديمة "المألوفة " ـ التي تقوم على التشبيه والاستعارة ـ إلى الشعرية الرمزية التي "يحضر فيها الرمز كحالة لغوية، تعكس بناء لغويا متميزا، يتجاوز المجاورة والنقل والاستبدال بمعنى أن هذه الحالة اللغوية تتخطى المشابه إلى نوع من البناء تتعقد فيه العلاقات بين الظواهر والأشياء" (3) علاقات تقوم على فعالية التوحد والاندماج المطلق للذات الشاعرة وتلك الظواهر والأشياء.
وفي الختام فإن هذا الحضور "الغياب" للقصيدة أو الكتابة الإبداعية المتجددة يمثل الوجود الحقيقي للذات الكاتبة عندما تتسلق جدران الصمت لتصغي إلى نداءات وجودها الآخر، وعندما تحتمي بالعزلة لتحس بضجيج ذاتها أكثر، فتجد نفسها أخيرا وقد مثلت في حضرة الغياب!

غياب
غيابك الذي يترك الموسيقى
هائمة على وجه الصحراء
تبحث عن انسجامها العميق.
غيابك الأكثر أزلية من البحار
حين عبرتهما غيمة عينيك الوارفتين
غيابك الذي لا حضور له
إلا في السر
والجسد بانقلاباته المفاجئة
ضحكتك التي ترن بنبرة يمام بري
في الظهيرة.
صداعك والأرق الذي تصفينه
ببراكين صغيرة خامدة في الرأس.
متاعنا المشترك
في ليل العالم الدامي
غيابك الأكثر حضورا
من عاصفة
الهوامش:
* من مجموعة "حيث السحرة ينادون أنفسهم بأسماء مستعارة " كتاب دبي الثقافية نوفمبر 2009
* خيبة الأمل أحد مصطلحات نظرية التلقي وهي "اللحظة التي يخيب فيها ظن المتلقي في مطابقة معاييره السابقة مع المعايير التي ينطوي عليها العمل الجديد" أنظر: ناظم عودة خظر، الأصول المعرفية لنظرية التلقي. دار الشروق للنشر والتوزيع ،عمان ، 1997م ، ص140.
1ـ محمد لطفي اليوسفي، كتاب المتاهات والتلاشي في نقد الشعر ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت، 2005م،ط1،ص113.
2ـ أدونيس، الصوفية والسوريالية. دار الساقي، بيروت 1992م،ط1 ص143.
3ـ أحمد الطريسي أعراب، الشعرية بين المشابهة والرمزية" دراسة في مستويات الخطاب الشعري". داربابل للنشر، الرباط ، 1991م ، ص41


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية