للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

اللغة العربيّة ثقافة .... وهويّة

أ. سعاد حويجة

ليس عبثاً أن تعلن منظمة اليونسكو "يوماً دوليّاً للغة الأمّ" والذي حدّدته في الحادي والعشرين من شهر شباط من كلّ عام . والأمر كما نتصوّر يعود لما يشهده عصرنا من محاولات الهيمنة الأمريكية على العالم عبر وسائل الاتصالات الحديثة والتي أهمها "شبكة الانترنيت" لا أحد يرفض الحضارة ولا أحد يرفض التطور , لا أحد ضد ما نراه من التفجّر المعرفيّ والعلميّ ,بل لقد أشار إلى ذلك وفسح المجال واسعاً أمام بني البشر المشرّع الأكبر في كتابه العزيز حيث قال جلّ جلاله : "يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فا نفذوا لا تنفذون إلا بسلطان".

فالنفوذ من أقطار الأرض عبر التقنيات الحديثة يجب ألا يعني محو الآخر أو السيطرة عليه وإخضاعه , بل ما يجب أن يعنيه هو : محاورة الأخر والتواصل معه والإفادة مما لديه تطبيقاً لقوله تعالى :"يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا".

هذا التعارف الذي أشار إليه ربّ العزّة ليس إلا شكلاً من أشكال التعاون بين البشر لما فيه خير الإنسانية وسعادتها . ومما تقدّم نخلصُ إلى القول بأنّ إعلان "اليونسكو"هذا قد يأتي في إطار دقّ ناقوس الخطر الذي يتهدّد الكثير من اللغات الأمّ بالضياع , وضياع اللغات الأمّ يعني ضياع ثقافات وعادات وتقاليد وتراثِ تلك الشعوب والأمم .

فكم سيصبح العالم فقيراً إذا ما ضاعت جلّ لغاته,فهنالك إحصائيات تقول : بأنّ مائتين من أصل ستة آلاف لغة قد ماتت واندثرت , وإنّ الموت يتربص بعددٍ آخر ليس بقليل من اللغات , وإنّ واحدة من اللغات الأم تختفي كل عامين ,فهل هناك خطر أكبر من هذا الخطر ؟ ! وهل علينا -نحن العرب – أن نخشى على لغتنا هويتنا وثقافتنا بعد أن صارت العولمة تكتسح الشعوب في لغاتها وثقافاتها, كما فعل الأوربيّون سابقاً وتفعل أمريكا اليوم . وكلّنا يعلم أنّ الوطن العربيّ لم يكن يوماً خارج حسبان الولايات المتحدة الأمريكيّة سياسيّاً وعسكريّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً ولغويّاً .

فهل ستستطيع أمريكا ورياح العولمة مهما كانت عاتية أن تقتلع لغتنا العربيّة التي تجذّرت في السماء , وتفرّعت في الأرض قال تعالى : "وعلّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم".

ومعروف من الدراسات أنّ اللغة التي تعلمها آدم في السماء هي "اللغة العربيّة"التي هبط بها إلى الأرض . فهي إذاً موجودة على كوكبنا منذ وجود آدم "عليه السلام" ولن نبحث هنا في نشأتها وتطوّرها عبر العصور بل ما يمكن قوله : إنّها وصلتنا في أرقى عطاء حضاريّ  لها خلال القرآن الكريم مما بوّأها مكانة رفيعة, وجعل الشعوبَ التي اعتنقت الإسلام تنكبُّ على تعلّمها وعلى دراسة نحوها وصرفها وبيانها, وكلّ ما يتعلق بها كونها حملت لهم تعاليم الدين الحنيف وأحكام القرآن والشريعة , وقد غبر دهر طويل كانت "اللغة العربيّة" هي اللغة الحضاريّة الأولى في العالم فاستوعبت ثقافات تلك الشعوب , وعبّرت من خلال ما تمتاز به من خصائص عن مدارك العلم المختلفة آنذاك . يقول ابن خلدون في مقدّمته مبيّناً بعضاً من خصائص اللغة العربيّة ومكانتها:

(( اعلم أن اللغة العربيّة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل لسانيّ فلابدّ أن تصير ملكةً متقرّرة في العضو الفاعل لها وهو اللسان وهو في كلّ أمّةٍ بحسب اصطلاحاتهم, وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسنَ الملكات وأوضحها إبانةً عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني؛ من المجرور أعني المضاف ومثلَ الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلّف ألفاظ أخرى , وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب , وأما غيرها من اللغات فكلّ معنى أو حال لابدّ له من ألفاظٍ تخصّه بالدلالة ولذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما نقدّره بكلام العرب , وهذا هو معنى قوله "صلى الله عليه وسلم","أوتيت جوامع الكلم,واختصر لي الكلام اختصاراً".

وما يستنتج من هذا هو أنّ اللغة العربيّة إلى جانب كونها حاصلة على أحسن الملكات وأنّها متفوقةٌ على سائر اللغات فهي أيضاً لغة الإيجاز , وهي بهذا قادرة على مجاراة العصر الحالي لا كما يقال عنها من عدم صلاحيتها لهذا الزمن . وقد برّهنت على حيويّةٍ وخصبٍ وقابليّةٍ عظيمةٍ للتجدّد والتطوّر مع مختلف المراحل التي مرّ بها المجتمع العربيّ منذ أقدم العصور إلى الآن , وهي اليومَ واحدةً من لغات عالمنا المعاصر التي تتكلمها مجموعة بشريّة كبيرة وتشكّل أساساً لثقافة خصبةٍ في مختلف المجالات ولأحد الأديان السماوية الثلاثة المعروفة في العالم والتي جاءت على أرضنا العربيّة, وقد أدرك الاستعمار المحتلّ والمغتصب للوطن العربيّ بكلّ أشكاله ومراحله وحتى يومنا هذا الأهميّة البالغة والقصوى للغة العربيّة بصفتها عاملاً أساسيّا في رسوخ هويّة العرب القوميّة فعمل على إضعافها وحاول محوها لكنّها ظلّت صامدة , وما تزال أداة التعارف بين ملايين البشر المنتشرين في آفاق الأرض .

واللغة العربيّة (( مرجعيّة تاريخيّة )) فالمعاجم العربيّة الموسوعيّة أمثال:((لسان العرب )) لابن منظور و (( تاج العروس)) )) للزبيديّ أوسعُ المعاجم العالميّة اللغويّة وأكثرها عراقة تاريخيّة و نستعين بهما لفهم مدلول الكثير من المفردات الأكاديميّة التي سجلّتها الكتابة المسماريّة منذ حوالي خمسة آلاف سنة و ونستعين بهما كأساس لفهم اللغة الكنعانيّة ونقرأ بموجبهما اللهجات الفينيقيّة . كما نستعين بهما لفهم المفردات الساميّة في لغة الفراعنة وفي لغة الإغريق أقدم الحضارات على الأرض (( فأيّ مخزون ثقافيّ هذا الذي تمتلكه لغتنا العربيّة )).

ومعلوم أنّ اللغة العربيّة من أكثر اللغات وفرة في المعاني والألفاظ والاشتقاق ويوجد فيها من الحروف مالا يوجد في غيرها ((حرف الضاد)) ثمّ إنّ المفردات والتراكيب وطبيعة اللغة تتجدد بالوظائف الاجتماعيّة والسلوكيّة لأفراد الأسرة , ما يعني وجود بيئات لغوية اجتماعية تتميز من الأخرى بل إنّ العادات والتقاليد والأعراف تفرض نفسها على اللغة طبيعة ووظيفة ً /تسميات ومصطلحات واستعمالات خاصة بأصحابها فالمجتمعات البدويّة مثلاً مازالت حتى اليوم تطلق  أسماء محددة على أبنائها تغاير على نحو ما يحدث في الحاضرة وكلّنا يذكر شيوع الأسماء المناسبة للبيئة العربيّة الصحراويّة (( انتماؤنا الأوّل)) في العصر الجاهليّ مثل: (( ليث- ضرغام – أسد ...)فهي تحمل دلالات الشجاعة والقوة والقدرة .... ما جعل هذه الأسماء تستمرّ حتى اليوم بفعل الدلالة الاجتماعيّة التي حملتها وهل ننسى الشاعر البدويّ المشهور (( عليّ بن الجهم )) /ت 249ھ/, إذ قال لمّا قدم من البادية وتوجّه إلى الخليفة مادحاً:

        أنت كالكلب في حفاظك للودّ    وكالتيس في قراع الخطوب

 

وحين همّ المحيطون بالخليفة للنيل منه أدرك الخليفة أثر البيئة الطبيعيّة الاجتماعيّة في تكوين المفاهيم ولغتها فأمر بأن ينقل إلى الرصافة , فتغيرت لغته ما جعله يقول قصيدته المشهورة التي تفيض رقة وعذوبةً :

 

عيون المها بين الرصافة والجسر     جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

 

وهذا يؤكّد أنّ  اللغة سلوك اجتماعيّ وثقافيّ . وبمقدار ما يتطوّر أبناء الأمّة تتطوّر لغتهم ( علماً بأنّ اللغة العربيّة متطوّرة على أبنائها).

وهنا نقول : إنّ الاهتمام بتعليم اللغة العربيّة يعني الحرص على هويّتنا وشخصيتنا بين الأمم في العالم المعاصر , وأمّة لا قوة في لغتها ولا وحدة ولا رابط يجمع لغتها وينميّها هي أمّة لا فكر لها وإن كان فلا وضوح فيه ولا معرفة . ولا شكّ أنّه سيكون فكراً أسيراّ .... وإنّ أمّة هذا شأنها لابدّ أن يتجاوزها النمو الحضاريّ الإنسانيّ ومن هنا كان الحديث من أجل تعميق اهتمامنا بلغتنا العربيّة والعمل على خدمتها وتنميتها في حياتنا بكلّ أشكالها يعني الاهتمام بتطوير تفكيرنا وتقديم أنفسنا ولنتذكّر أنّ العرب حين أسّسوا الحضارة العربيّة الإسلاميّة إنّما أسّسوها بلسان عربيّ مبين وبتعاليم إنسانيّة. وليست لغتنا العربيّة اليوم عاجزة عن أخذ دورها الحضاريّ خصوصاً وإن أنظمة ترميز المعلومات في الحاسوب ما يسمى ( لغة الآلة) للتخاطب بين الإنسان والحاسوب أو بين حاسوب وحاسوب آخر عبر شبكة الإنترنت ...... ولكي تأخذ هذه الأنظمة الترميزيّة بعداً علميّاً لابد أن نأخذ بالحسبان خواص اللغات الإنسانيّة المتمثلة بشكل أساسي في ( قواعدِ اللغةِ وترميزِ الأحرفِ وتشكيلِ الجملِ ) فالحاسوب لا يتعامل إلا مع لغة الأرقامِ وبنيتهِ هي بنيةٌ رقميّة ٌ بحتةٌ (جبريّة – خوارزميّة) وإذا علمنا أنّ الأرقام من (1-0) هي عربيّة الأصل والخوارزميات عربيّة أيضا أدركنا وببساطة – أنّه لولا المدرسة الرياضيّة العربيّة لما وجد الحاسوب الرقميّ.

لقد وضعت هيئة المواصفات والمعايير العربيّة ( ASMO)  جدولاًَ لترميز الحروف العربيّة وبذلك تكون لغة الآلة ( العربيّة ) هي مجموعة من التعليمات الأساسيّة لا يمكن الخروج عنها في كلّ حاسوب , وتكتب بالرقمين (1-0) بحيث يتعامل الحاسوب – وجميع الأجهزة الرقميّة – مع هذه اللغة بشكل مباشر ودونما الحاجة إلى برامج وسيطة وهذا يعني أنّه ليس ثمة إشكال على الإطلاق في اللغة العربيّة فيما يخصّ الحاسوب, إذا ما ربطناها بالقاعدة العلميّة لأنّ هذه القاعدة ترتكز على مفاهيم رياضيّة ابتكرها العرب منذ قرون .

وضمن هذه الرؤيا أجريت في اليابان دراسة على اللغات العالميّة بهدف معرفة أكثر اللغات وضوحاً صوتيا في استخدامات الحاسوب وقد أثبتت الدراسة أنّ اللغة العربيّة تتصدّر هذه اللغات في الوضوح الصوتيّ .

بينما تأتي اللغة الصينيّة في آخر القائمة . وهذا يؤكدّ تميّز اللغة العربيّة بأنّها لغة الإبانة . بينما اللغات الأخرى هي لغة الرطانة . الأمر الذي يجعلها مطواعةً للاستخدام في البرمجيّات الحاسوبيّة بمجالاتها المختلفة في حال أعطيت العناية اللازمة . فعلى عاتق من تقع هذه العناية ؟! أليست على عاتق أبناء هذه الأمّة؟! وهم قادرون إذا ما امتلكوا الإرادة والعزيمة وهنا نستذكر قول الشاعر العربيّ السوريّ (عمر أبو ريشة):

            هذه تربتنا لن تزدهي      بسوانا من حماةٍ نُدُب

ولقد كان القائد الخالد "حافظ الأسد" "طيّب الله ثراه" من الحماة الندب الذين خفّوا لاستنهاض همم أبناء اللغة العربيّة من أجل العمل على حمايتها واستعادة ألقها , وجاء الرئيس المفدّى "بشار الأسد" ليؤكّد على أهميّة اللغة العربيّة وضرورة العمل الدؤوب من أجل النهوض بها في ظلّ ما تواجهه من تحديات , فأصدر القرار الجمهوريّ رقم /4/ لعام /2007م/ القاضي بتشكيل لجنة للتمكين للغة العربيّة والمحافظة عليها والاهتمام بها بالإضافة إلى الوعي اللغويّ والشعور بالمسؤوليّة تجاه اللغة الأمّ.


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية