|
|

اللّغة العربيّة الأمّ
أ.د. عبد الحميد عبد الواحد
إنّ اللّغة الأمّ في الاصطلاح اللّسانيّ هي اللّغة المكتسبة التي يكتسبها الطفل في بيئة لسانيّة ما ، ينتمي فيها الطفل إلى مجموعة لسانيّة معيّنة. وعليه فإنّ الاكتساب يتمّ في محيط أسريّ أو اجتماعيّ معيّن، وهذا إذا ما توفّرت الشروط اللّازمة لذلك، بطبيعة الحال ، ومن أهمّ هذه الشروط سلامة جهاز النطق أو التصويت، وسلامة المدارك العقليّة للطفل. ويتمّ الاكتساب في حدود السنّ الخامسة أو السادسة، يكون الطفل فيها قادرا على أن يتكلّم، وينشئ جملا مختلفة مفيدة وكثيرة، ويفهم طائفة كبيرة من الجمل المتحقّقة، ويصبح قادرا ولا شكّ على الإثبات والنفي والاستفهام والتأكيد والطلب والشرط وغيرها. والطفل في مجموعاتنا اللّسانيّة العربيّة، مثل غيره من بقيّة الأطفال، يكتسب لغته الأمّ بكيفيّة هي على غاية من السهولة واليسر ، وذلك دون أيّ تعلّم أو تلقين، ودون الالتجاء إلى وسائل بيداغوجيّة أو تعليميّة تذكر، وإنّما هو يكتسب لغته الأمّ، وهو يعيش حياته الطبيعيّة، يأكل ويلعب ويمرح، فيتكلّم ويصيح وينادي ويحتجّ، ويأتي بكلّ أفعال القول. وهو يخطئ ويصيب، ويلتجئ دون عناء إلى نحوه المؤقّت، ومنطقه الخاص إلى أن تتمّ عمليّة الاكتساب وتحصل الملكة.
في عمليّة الاكتساب هذه قد لا يتبادر إلى الذهن السؤال عن حقيقة اللّغة المكتسبة، لأنّه بديهيّ أن نقول إنّ هذه اللّغة هي العربيّة، ولكن أيّ عربيّة ؟ أو ليست هي اللّغة، أو بالأحرى اللّهجة التونسيّة بالنسبة إلى الطفل التونسيّ، واللّهجة المغربيّة بالنسبة إلى الطفل المغربيّ، واللّهجة المصريّة بالنسبة إلى الطفل المصريّ ؟ وقس على ذلك. صحيح أنّ هذه اللّهجات هي لهجات عربيّة باعتبار أنّها تعود إلى أصول واحدة، ولكنّه صحيح أيضا أنّ فيها من التباين والاختلاف ممّا قد يعيق عمليّة التفاهم أو التواصل أحيانا. وهذا الاختلاف لا يتعلّق بالمستوي المعجميّ ( أي المفردات )، أو المستوى الصوتيّ وحدهما، وإنّما هو يتعلّق بالمستوى التركيبيّ والبيانيّ أيضا.
وما أن تتمّ عمليّة الاكتساب هذه في بلداننا العربيّة حتى يؤمّ الطفل العربيّ المدرسة ليتعلّم اللّغة العربيّة الفصيحة، فيعيش الثنائيّة اللّغويّة المعتبرة، ويتداخل الأمر عنده في الخلط بين سجلّين أحدهما عاميّ والآخر فصيح. وتظلّ هذه التبعيةّ تلاحقه إلى بقيّة آخر أيام حياته. وعن هذه الثنائية تنشأ حالات من الإخفاق المدرسيّ وحالات من التشتّت الذهني في العبارة والاستعمال، وممّا يزيد من حالة الاختلاف القائمة بين الشعوب العربيّة في التواصل والتفاهم، والانغلاق داخل محليّة ضيّقة، وإثارة النعرات المحليّة والجهويّة.
إنّ الطفل العربيّ في مجتمعاتنا العربيّة، وفي عمليّة اكتسابه للغته الأمّ لا ذنب له، لا في هذا الانتماء ولا في هذا الاكتساب، وما ينتج عنه من تبعات لسانيّة وتعليميّة ونفسيّة، لأنّه وبكلّ بساطة هو يعيش واقعه اليوميّ، ويعيش حياته الطبيعيّة، وهو لا يفكّر في أمر لغته المكتسبة، ولا في الهوّة الفاصلة التي تفصل بين عربيّتة الدارجة وعربيّتة الفصيحة. ولا غرو في أنّ المسؤوليّة كلّها في اعتقادنا ملقاة على أصحاب الرأي وأصحاب القرار،وذلك من أجل إيجاد الحلول المناسبة للتقليل من مخاطر هذه الثنائيّة المشار إليها، التي ظلّت ملازمة لنا لعقود بل لقرون طويلة، وتقليص الهوّة الفاصلة بين العربيّة الفصيحة والعربيّات الدارجة أو العاميّة، وجعل العربيّة الفصيحة في خاتمة المطاف لغة مكتسبة اكتسابا لا لغة متعلّمة، وتغدو بالتالي اللّغة الأمّ للطفل العربيّ على امتداد الساحة العربيّة ولمَ لا ؟
|
|
|
|
|