للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

في اللغة والانتماء الاجتماعيّ: مقدّمة في تعريب التعليم

أ. منصور بن محمد الشتوي

من المسائل التي يُعنى بها علماء الاجتماع في اللغة أثرها في تكوّن المجتمع ودلالتها على الانتماء الاجتماعيّ إلى فئة أو طبقة أو جماعة داخل مجتمع مّا أو إلى مجتمع مختلف عن مجتمع آخر كدلالة اللغة العربيّة على الانتماء إلى المجتمع العربيّ ودلالة اللغة الفرنسيّة على الانتماء إلى المجتمع الفرنسيّ إلخ. ذلك أنّ من خصائص المجتمع الواحد أنّ له لغة واحدة. وإن تعدّدت اللغات فيه تعدّدا حقيقيّا لا لهجيّا فذلك دليل إمّا على أنّه ليس مجتمعا واحدا وإمّا على أنّه مجتمع في طور التكوين. على أنّ من المهمّ أن نؤكّد أنّ اللغة ليست هي المؤشّر الوحيد على الانتماء الاجتماعيّ وإلاّ لجمعنا كلّ المجتمعات الفرانكفونية في وحدة واحدة أو لجمعنا كلّ المجتمعات الأنغلوسكسونيّة في مجتمع واحد. هذا على المستوى الأفقيّ في زمان واحد معيّن. وللمسألة بعد رابع هو الزمن. (ونحن نفرّق هنا بين الزمن والزمان. فالزمن هو الحركة الناتجة عن تنقّل الأفلاك والزمان هو الإطار المحدّد مثل الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين). فللغة أثر في الانتماء الاجتماعيّ على المدى الزمنيّ/التاريخيّ. ذلك أنّ التواصل اللغويّ ليس أفقيّا في مكان واحد فحسب بل هو تواصل تاريخيّ بين مختلف الأجيال في المجتمع الواحد.
على أنّ من الجدير بالملاحظة أن ليس للّغة أثر في طور واحد من أطوار المجتمع، أي الأسرة أو العشيرة أو القبيلة أو الشعب أو الأمّة، على حدة فحسب وإنّما لها أثر في المراحل الانتقاليّة أو ما يسمّى "أطوار التكوين الاجتماعيّ". ومن أمثلة ذلك أنّ طور تكوين الأمّة قد يدرك شعوبا متفرّقة قبل أن يكتمل تكوينها أمما فيثور بينها صراع اجتماعيّ قد يطول وقد يقصر لكنّه ينتهي إلى "اتّفاق" اجتماعيّ – غالبا ما يكون بحكم الغلَبَة – على منظومة قيم ورموز وهذه الرموز هي أدوات التواصل ومنها اللغة. والملاحظ أنّ هذه الشعوب المتفاعلة في طور التكوّن الاجتماعيّ يكون صراعها ذاك – دون أن تعي في الغالب – جزءا من تاريخها الموحّد ويكون التاريخ قد فعل فعله فيها فوحّدها ثقافيّا واجتماعيّا. فما إن تنقضي الصراعات أو الخلافات حتّى ينتبه الناس وقد وحّدتهم الظروف المشتركة فصاروا مجتمعا واحدا بعد أن كانوا مجتمعات لكنّهم دخلوا طورا جديدا. هذا على المستوى الداخليّ، أمّا على المستوى الخارجيّ فغالبا ما يحدث أن تتوحّد الشعوب أو القبائل – لنقل المجتمعات المختلفة – لدفع خطر مشترك خارجيّ.
لقد استطردنا كلّ هذا الاستطراد قبل أن نقول إنّ اللغة العربيّة استقرّت لغة موحّدة للمجتمع العربيّ لأسباب تاريخيّة ودينيّة وسياسيّة مختلفة تتجاوز حدود حديثنا هذا، لكنّها "ورثت" رواسب من لغات الشعوب والقبائل التي كانت مستقرّة في تلك المنطقة التي نسمّيها اليوم "الوطن العربيّ". والأدلّة على ذلك كثيرة. ولعلّ مبحث "اللسانيّات الساميّة المقارنة" هو أكثر المباحث كشفا لصلات القرابة بين العربيّة وأخواتها الساميّات من جهة ولما ترسّب فيها من أطوار لغويّة سابقة أثّرت في أنظمتها الصوتيّة والصرفيّة والمعجميّة والتركيبيّة والدلاليّة من جهة أخرى. لكنّ هذه المكتشفات العلميّة لا تعني نفي كون العربيّة لغةَ المجتمع العربيّ منذ أن اكتمل تكوين المجتمع العربيّ. ذلك أنّ المنسيّ أحيانا في الحديث الذي يراد له أن يكون "علميّا" عند علماء اللسان هو أنّ هذا العلم يقوم على محورين: الآنيّة والزمنيّة. والآنيّة تعني دراسة الظاهرة في زمانها ثابتة أي من حيث هي بنية قائمة على عناصر وعلاقات بين تلك العناصر؛ والزمنيّة هي دراسة الظاهرة/البنية في حركتها داخل الزمن أي وهي نظام. ذلك أنّ النظام هو بنية متحرّكة أو بنية مضافا إليها الحركة والقواعد (أو القوانين) والمبادئ. وهذا إن طبّقناه على اللغة – وعلى العربيّة مثلا – سيتبيّن لنا أنّ القول بوجود آثار لغويّة من أطوار سابقة في اللغة العربيّة يجب أن ينزّل تنزيلا تاريخيّا. وعندئذ سيكون ذلك تأكيدا أنّ الطور السابق لا ينفي اللاحق ولا يكون حجّة عليه كما أنّ الطور اللاحق لا ينفي السابق ولكن يشمله ويتجاوزه. ولينظر من شاء التوسّع أعمال المتخصّصين في الدراسات اللغويّة الساميّة المقارنة فقد أكّدوا فيها اتّساع إمكانات العربيّة التعبيريّة مقارنة باللغات التي ورثت منها عناصر في أطوار سابقة. ومن تلك الأعمال كتاب رمزي بعلبكي "فقه العربيّة المقارن".
أمّا على المستوى الأفقيّ فإنّ للغة بعدا موضوعيّا لا ذاتيّا يرتبط بوصف مألوف هو أنّها "مؤسّسة اجتماعيّة". وللمؤسّسة سمتان هما الجماعيّة والتداول عبر الزمن. وقد رأينا التداول عبر الزمن في ما سبق من حديث عن أثر الزمن في التواصل الاجتماعيّ بين الأجيال. أمّا خاصّيّة الجماعيّة فتعني ارتباط اللغة "بالتواضع الجماعيّ". وهذا أوّلا يفنّد التصوّر "الفطريّ" أو "التوقيفيّ" في الاكتساب اللغويّ، وثانيا يدعم ما نحن في صدده من تأكيد التلازم بين اللغة والانتماء الاجتماعيّ. وهذا ما يؤّكده علم اللسانيّات فإنّ "اللغة تسبق وجود الفرد المستعمل لها، لكنّها لا تسبقه لأنّها فطريّة في نوعه البشريّ، منزّلة في دماغه أو مدوّنة في جيناته، بل لأنّها موجودة قبله في الجماعة اللغويّة التي يحلّ بينها بالولادة. وقدرات الفرد المعجميّة والنحويّة إنّما تتحقّق بين بقيّة أفراد الجماعة التي ينتمي إليها، وهو – مثل بقيّة الأفراد – يتقيّد في استعماله اللغة بما استقرّ من قوانين وقواعد تحدّد استعمالها باعتبارها لغة مشتركة. هذا يعني أنّ للغة بين أفراد الجماعة اللغويّة الواحدة بعدا موضوعيّا محضا تحدّده المفردات ودلالاتها المتواضع عليها، والقواعد التي تحدّد نمطيّة التركيب والدلالات السياقيّة التي تستفاد من الجمل، وبعدا ذاتيّا شخصيّا يحدّده اختيار المتكلّم لأنواع الجمل والسياقات الإيحائيّة التي يريد التعبير عنها بها، وأنواع التنغيم التي يحمّلها إيّاها (...) وإذن فإنّ تعامل الفرد مع اللغة هو في جوهره تعامل موضوعيّ، واستعماله لها في معظمه استعمال موضوعيّ لا ذاتيّ. فهو يستطيع أن يؤلّف الجمل لكنّه لا يستطيع أن يؤلّف المعنى لأنّ المعنى حاصل قبل تأليف الجملة باعتباره مستفادا من المفردات أو من التعابير الاصطلاحيّة الموجودة قبل تأليف الجملة، ومن نمطيّة التأليف التي تحدّدها قوانين استعمال اللغة التركيبيّة، بل إنّ تأثير هذه النمطيّة في المعنى دالّ على أنّ حرّيّة الفرد في تأليف الجمل محدودة أيضا". (إبراهيم بن مراد: مقدّمة لنظريّة المعجم، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، 1997، ص 84.)
إنّ هذا الشاهد يؤكّد أنّ اللغة موضوعيّة سابقة للأفراد في المجتمع من حيث هي نظام من المفردات والتراكيب والسياقات. ونريد أن نركّز في هذا المقام على المعنى (الدلالة). ذلك أنّ المعاني موضوعيّة متحصّلة من تجربة الجماعة اللغويّة في الكون وهذا ما يمكن أن نقوله بلغة أخرى هي أنّ المعاني هي الخبرة المتراكمة من التواصلات الماضية في تاريخ المجتمع من حيث هو جماعة لغويّة. ولذلك فالدلالة تصبح ملكيّة تاريخيّة مشتركة. فإذا أضفنا أنّ الألفاظ أو الجمل تصاغ لأداء المعاني تبيّنّا أنّ اللغة – من حيث هي مؤسّسة – تضمن موضوعيّا انتماء الأفراد إلى المجتمع من خلال الربط المتين بين أنظمتها وما يسمّى رؤية العالم. ذلك أنّ لكلّ لغة "رؤيتها" للكون وتقسيمها - أو تقطيعها - المخصوص للواقع. ويمكن أن نضرب على ذلك مثلا الألوان. فرغم أنّ اللون ظاهرة طبيعيّة موضوعيّة غير متوقّفة على إرادة الناس فإنّ للّغات "ألوانا" مخصوصة. فليس أحمر العربيّ هو أحمر الفرنسيّ وليس أزرق الإيطاليّ هو أزرق الكنديّ والأصفر عند الصينيّ ليس هو عند المكسيكيّ... فتقسيم الطيف محكوم بمقاسم الدلالة اللغويّة. ومن آثار ذلك ما يجده المترجمون لهذه الألوان من صعوبات. وقد اعتنى جورج مونان (Georges Mounin) بهذه الظاهرة وسجّل استنتاجات مهمّة في أوّل بحث علميّ لسانيّ أكاديميّ في الترجمة. وقد صدر سنة 1963 بعنوان "القضايا النظريّة في الترجمة" (Les Problèmes théoriques de la traduction). ولعلّ من أهمّ ما يمكن أن نضيفه ما له علاقة بظاهرة "سوء التفاهم الحضاريّ". وفيه تظهر أهمّيّة التفكير في اللغة والتواصل. ففي محصّلة الصراع بين الكنيسة والدولة استقرّت - في الفرنسيّة مثلا - مفاهيم ثلاثة هي: الدينيّ (Le religieux) والمعادي للدين (L’antireligieux) و"المحايد" بين الدينيّ والمعادي للدين أو "غير الواقع في حيّز الحكم الدينيّ" (Areligieux) وقد أصبح في ما بعد لائيكيّا (Laïque). لكنّ هذه المراتب الثلاث عندما عرّبت أصبح المحايد والمعادي للدين في خانة واحدة لأنّ العربيّة لا تشتمل على المرتبة الوسطى. فصار اللاّئيكيّ ملحدا وصارت الدولة اللاّئيكيّة بالضرورة دولة ملحدة. وهذا طبعا لا يعني دفاعا عن اللائيكيّة أو مهاجمة لها وإنّما أردنا أن ننبّه إلى أهمّيّة التفكير في أثر اللغة في توجيه الفهم الحضاريّ. فالناس مقيّدون – وعوا أم لم يعوا– بما تتيحه اللغة من إمكانات تفكيريّة تعبيريّة باعتبار تواضعهم على نظامها التواصليّ.
تلك، إذن، قضايا تمهيديّة للنقاش في قضيّة نراها مركزيّة هي قضيّة تعريب التعليم. ولا شكّ أنّها قضيّة شاسعة لابدّ فيها من البحث المتأنّي المتخصّص في اللسانيّات الاجتماعيّة واللسانيّات النفسيّة واللسانيّات العرفانيّة وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم التربية والابستيمولوجيا... فهل نولي هذا الموضوع ما هو جدير به من عناية؟


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية