|
|

الحدّ الفاصل بين القول والفعل
أ.د. عبد الحميد عبد الواحد
يرى اللّغويون في عالمنا اليوم بأنّ القول هو الإنجاز الفعلي للكلام.والكلام يتطلّب بالضرورة المتكّلم/ المستمع، وذلك للتأكيد على الطبيعة الشفويّة للكلام من جهة، وللتأكيد على الصلة الوثيقة الرابطة بين النطق والسمع من جهة ثانية، وعلى ازدواجيّة وظيفة التكلّم عند الإنسان من جهة أخيرة. وعليه لا يسعنا إلّا أن نقرّ في هذا الصدد بإنّ الكلام هو ميزة بشريّة ملازمة للإنسان باعتباره إنسانا، لا ترتقي إليها بقية الكائنات الأخرى بأيّ حال من الأحوال. صحيح أن للحيوانات والحشرات والطيور لغاتها وتعبيراتها، وصحيح أنّ العالم كلّه مليء بالدلالات بما في ذلك الكائنات الصامتة، ولكنّ لا واحد من هذه المخلوقات أو الكائنات بإمكانه أن يرتقيَ إلى مصاف الإنسان للتعبير عمّا يريد التعبير عنه، ولا أيّ كائن من كائنات الوجود المختلفة بقادر على أن يعبّر عن أيّ معنى من المعاني التي يعبّر عنها الدليل اللّساني أو الكلمات.
إنّ القول إنجاز، يصدر عن صاحبه بهدف تحقيق غايات إبلاغيّة أو مطلبيّة، وذلك من نحو الإعلام والاستفسار، والإخبار والاعتراض، والإجبار والتنازل والنصح والتقدير والتقييم والطلب وغيرها. وهو يتطلّب والحالة هذه سياقا مشروطا وطرفين للتواصل أو أكثر، هذا إذا لم نتحوّل من الخطاب المنطوق إلى الخطاب المكتوب بطبيعة الحال. ومن هنا جاء الحديث عن وظيفة الخطاب من قبِل بعض اللّغويين المحدثين ، وذلك بالنظر إلى طبيعته باعتباره خطابا عاطفيّا أو حجاجيّا أو وصفيّا أو تفسيريّا أو غيره. ومن هنا يختلف أسلوب الخطاب أو أسلوب الكلام لا محالة، ويتغيّر معجمُه أو مفرداته، وطبيعة تركيبه وصياغة عبارته.
نحن جميعا نتكلّم ونَسوق الأقوال بدرجات متفاوتة من حيث البلاغة والتبيان، وانتقاء الألفاظ، وصياغتها. وتبعا لاختلاف الأشخاص فإنّ الطريقة في الأداء تختلف من فرد إلى آخر، ومن حال إلى حال. وقد يختلف حال المتكلّم بالنظر إلى المقام أو السياق الذي يتحقّق فيه الكلام وبالنظر إلى اختلاف المتلقّي أو المتلقّين.
ولا يفوتنا من جانب آخر أن نشير إلى أنّ الغاية من الكلام لا تخلو في الغالب من أن تكون من باب القول/ الفعل، وتحقيق أو إنجاز فعل ما. ومن هنا فإنّ التلازم بين القول والفعل قائم بلا شكّ، ويصبح الحدّ الفاصل بين القول والفعل دقيقا إلى حدّ التماهي، ويغدو المطلوب هو القول لا الفعل، وإلّا غدا الكلام لا معنى له، لأنّ الكلام لا يصبح له معنى إلّا متى أُّنجز أو تحقّق. وبتعبير آخر تصبح قيمة الكلام أو القول غيرَ قابلة للتحقّق، إلّا بإنجاز الفعل، واستجابته لمتطلّبات الواقع وإلّا عاد لغوا لا فائدة تحصل منه، ويصبح المتكلّم يُلقي الكلام جزافا دون أن يتحمّل تبعاته، أو يتحمّل مسؤوليته فيه.
القول / الفعل له قيمة ومكانة في المجتمع لا تنكران، يُلزم أفراده بما يقولون وبتنفيذ ما يصرّحون به، ولا بدّ أن يكون الواحد منهم في مستوى إنجاز ما يتعهّد به، وقديما قالوا "الكلمة دين في رقبة صاحبها" أو "هي عهدة لديه"، ويقال "من أعطى كلمته أعطى رقبته"، وما شابه ذلك. وليس بعيدا عنّا في الغرض ذاته قول ابن المقفّع الذي يرى أنّ الرجل ثلاثة : "واحد يقول ولا يُنجز"، و"آخر يقول وينجز"، وثالث "ينجز ثمّ يقول"، وهذا أفضلهم. وفي واقعنا وحقيقة حياتنا اليوم قد يغيب صنف أفضل الرجال، فيحلّ محلّه الصنف الأوّل خاصّة، وذلك بالنظر إلى كثرة القول، وقلّة أو انعدام الفعل، أو عدم التوافق الملحوظ بين ما يُقال وما يُنجز، ممّا ينجرّ عنه اتّساع الشقّة بين القول والفعل، أو أن يصبح الحدّ الفاصل بينهما هوّة عميقة ليس من السهل سدّها، وكلّ هذا يعود إلى عدم الالتزام بما يُقال وعدم الحرج ممّا يُقال. هذا بالإضافة إلى ما يحصل في القول من افتراء ومبالغة وإطناب وتناقض وزيادة ونقصان، وعدم استنكاف ممّا يُسمع أو يُقال، ممّا يجعل الحاجة هي الحاجة، والكلام هو الكلام. ويصبح كلام كلّ الأوقات هو كلام ليل لا يلبث أن يذوب سراعا.
وفي الأخير، وبالنظر إلى كلّ هذا ألا يجدر بنا أن نتساءل : هل نحن بحاجة فعلا إلى إعادة الاعتبار للكلمة أو الكلام ؟ وهل بإمكاننا أن نعيد للكلمة رونقها وبريقها ؟ وهل من داع إلى توثيق الصلة بين القول والفعل، وبين الكلام والواقع ؟ فنحرص على تربية أجيال المستقبل على صدق القول، وصدق الإنجاز، وأن نمحيَ الحدود الفاصلة التي ما فتئت تتّسع بين إنجاز القول وإنجاز الفعل.
|
|
|
|
|