|
|

قراءة النص
د. أمين عبد الله اليزيدي
هذه المقالة امتداد لثلاث مقالات سابقة، عن قراءة النص.
نحن نتعامل مع اللغة ( إذا كنا نتعامل مع نص لغوي) أو ينبغي أن نتعامل معها ولدينا تصور مسبق عن تكنيكات إنجاز هذا الفن ( تكنيكات إنجاز القصة/ القصيدة العمودية/ القصيدة الحداثية/ المسرحية/ الفيلم/ السيناريو..) أي نتعامل مع النص وفق منظور أنه إنجاز تكنيكي في صناعة النصوص وعليه فقد نرغب في تركيز انتباهنا على الحيل التكنيكية التي لجأ إليها المبدع وأهمية تلك التكنيكات للتأثير الكامل للنص. مثلا أهمية الاستعارة – كفن بنائي، والتقديم والتأخير والإضافة في التركيب، والأثر الدلالي والمعنوي والجمالي. ما الحيلة التي جعلت من الاستعارة استعارة نادرة ( لأنها كفن هي التعبير عن شيء بشيء آخر) هل الإضافة، التقديم، التأخير، التعريف، التنكير... إلى غير ذلك. ولن نكون قادرين على هذا الأسلوب من التعامل ما لم يكن لدينا تبصر وإلمام بأغراض الأساليب البنائية والبيانية من جهة، وذوق وإحساس مرهف وقدرة على تجريب البدائل وتذوق كل بديل من جهة أخرى. ما أثر الفصل أو الوصل، ما أثر العطف بالفاء أو بالواو وما الفرق بينهما في نفس البديل.
وبنظرنا في النصوص – وخصوصاً مع التحليل الأسلوبي- قد يتركز اهتمامنا الأكبر على ( كيف) يوصل/ أوصل المبدع رسالته فكرياً وفنياً وجمالياً ؟ كيف استطاع استغلال تكنيكات الفن ( اللغة/ الرسم/ التصوير السينمائي) استغلالاً مفيداً. وعند مقارنة نص بآخر في الموضوع نفسه وضمن نفس الإطار سيكون أكمل وأجود العملين هو ذلك الذي يستغل إمكانية المجال التعبيري خير استغلال. ( المجال التعبيري= قصة. شعر. رواية. مقال. فيلم. مسرحية . ونحوها.) وتختلف التكنيكات باختلاف المجال التعبيري ونوع الفن وأسلوب التحليل ومنهجيته، وأيضا داخل كل مجال/ كل عنصر له تكنيكاته الخاصة، فالشخصية في السرد لها تكنيكاتها، واللغة الفنية في السرد تتمايز عن اللغة الفنية في الشعر أو الخطابة..
وحين يحدث التواصل مع النص على هذا الأساس فإنه سيكون في أذهاننا أسئلة ينبغي البحث عن إجابة عنها أثناء التحليل، أو نحن فعلاً ندرس النص ونحلله وهي موجودة بطريقة ما في أذهاننا، من هذه الأسئلة:
1- إلى أي مدى من الجودة/ المعايير استغل العمل إمكانيات التعبير؟.
2- ما التكنيكات المبتكرة التي استخدمت وما مدى فاعلية تأثيراتها؟.
3- هل العمل الفني بتقدير حكم إجمالي أرقى أم أدنى من الوجهة التكنيكية؟ هل وجود الفصل يكسب العمل رقياً أم العكس؟.
4- ما هي أقوى نقاط العمل؟ وما هي أضعفها؟.
كما يمكن النظر إلى العمل في ضوء أنه ممثل لعـقل إبداعي متفرد، أي أن يكون مدخلنا للتحليل هو المبدع وفلسفته وأسلوبه الإبداعي الابتكاري، وأين تنعكس عبقريته وأسلوبه وذاتيته المبدعة في كل ناحية من نواحي العمل. وقد يتركز ذلك الإبداع في جانب من الجوانب مثل: الحوار، الاستلهام، الإيقاع، التصوير البياني... وهكذا. والفرق بين هذا المدخل والذي قبله أننا في المدخل السابق ننظر إلى العمل كفن له أساليبه وتكنيكاته الفنية واللغوية، ومدى إبداع المبدع في توظيف تلك الأساليب. أما في المدخل الثاني ( مدخل المبدع) فنحن ننظر إلى العمل الفني لا كنوع موضوعي من الفن، بل كصورة منعكسة لشخصية المبدع الذي صنعه وبخاصة في ضوء أسلوبه أو رؤيته الفنية ( واقعية ، رمزية..) ووفقاً لهذا التصور يكون العمل الجيد هو الذي يحمل كل عنصر من عناصر بنائه أسلوب المبدع ومهاراته وذاتيته وشخصيته. في حين أن المدخل الأول ينظر إلى العمل الجيد أنه ذلك العمل الذي يستطيع استغلال إمكانيات التكنيكات التعبيرية اللغوية والفنية والاجتماعية بأكبر قدر ممكن. أي أنَّ النمط الأول يركز على النص وخصائصه الأسلوبية، والنمط الآخر يركز على المبدع نفسه.
وثمة صعوبات تواجه العمل النقدي والنقد باستمرار ذكرنا بعضها في أثناء الحديث ونذكرها هنا مجملة وقد لا تكون هي كل الصعوبات:
1- أننا نتعامل مع فنون تأثيرية لها قدرة تأثيرية في المتلقي ناقداً أو غير ناقد، وتختلف استجابات المتلقين تبعاً للمؤثرات المعروفة .
2- التعامل مع النصوص اللغوية فيه صعوبة خاصة أنه لكل كلمة دلالة وسياق يؤثر في الدلالة وفي قدرتها التعبيرية ولها أي اللغة ومفرداتها وتراكيبها قدرتها التأثيرية على المتلقي كون اللغة في ذاتها تحمل العواطف والمشاعر وهما غير ممكني التحديد والقياس العلمي.
3- النقد عملية ذاتية وعمل الناقد العملي يبقى في قدرته على التعبير العلمي عن تفاعله مع مشاعره.
4- لا يوجد مدخل محدد ولا منهج محدد و لا أسلوب محدد يكون قادراً على التعامل مع كل النصوص أو المجال التعبيري الفني، بل إن العمل الواحد يمكن التعامل معه بأكثر من مدخل وأكثر من منهج.
5- تبقى كل القراءات النقدية قراءات ذاتية وناقصة ولا تمثل بالضرورة تجربة نقدية صادقة/ ثابتة على العمل بحيث لا ينبغي تجاوزها.
6- القواعد والإرشادات في التعامل المنهجي مع الفنون أو غير الفنون جامدة لا تلين وتعجز عن الانبساط أو الانكماش لتناسب العمل الجاري تقييمه، فقد نجد عملاً مؤثراً راقياً لكنه غير ملتزم بالمعايير العلمية المعروفة للمجال التعبيري مثلاً: نجد فيلماً أدهش الجمهور لكنه من ناحية مطابقة المواصفات التقنية لم يحظ برضا النقاد والعكس صحيح( ).
7- من الصعوبات النقدية وقواعدها الافتراضية أنها غير ملزمة و لا ممكنة التطبيق دوماً وعلى أساس رياضي حرفي، إنها لا تصمد كثيراً و لا دائماً و لا في كل الأحوال، و لا الأعمال، لأن الأعمال متجددة وجديدة وتخضع لعقول غير متناظرة فضلاً عن الأهواء والنزعات والثقافة ونحوها وكذا النقاد.
8- التصوير فن، والفن عمل إنساني، وهو لا يخلو من عاطفة، والصور هي التي تؤدي إلى التداعي والارتباط بين الأفكار الكامنة وراء الألفاظ. والأثر الناشئ هو أحد أبعاد الصورة وجزء من روحها. والأثر هنا يحيل إلى أن نجاح الصورة أو فشلها في القصيدة مرتبط بتآزرها الكامل مع غيرها من العناصر لكونها موصلا لخبرة جديدة في ما يتصل بالشاعر الذي يدرك والقارئ الذي يتلقى؛ ذلك أنها لا تثير صوراً حسيةً بصرية فحسب، بل تثير في ذهن المتلقي صوراً جديدة لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته( ).
كما ينبغي أن درك أنَّ ثمة مشاكل مفهومية ومنهجية تتعلق بالعمل النقدي، ومن أهم وأبرز مشاكل المناهج الأدبية والنقدية أنها سريعة التبدل ولا تتمتع بالدقة التامة مثل المناهج العلمية في الرياضيات أو الكيمياء...، كما أنَّ مفاهيمها الشائعة مفاهيم غامضة وضمنية غالباً ومتغيرة وغامضة .. ومفهوم الأدب مفهوم متغير على مرِّ الزمن( ). ولعل من أسباب ذلك:
1- أن الأدب لغة، واللغة هوية وثقافة وليست عمليات منطقية فحسب.
2- أن اللغة والأدب على وجه الخصوص لا يخلوان إن لم يكن واجباً من وجود العاطفة ومن ظهورها في العمل الأدبي، فالكلمات ليست دليلاً علمياً إلى الأشياء، بل هي أيضاً على قدرٍ من احتمال العاطفة والقيم الاجتماعية والفكرية للمجتمعات.
3- أنَّ النتاج الأدبي يصطبغ بصبغة الصراع الاجتماعي والفكري، والحراك الثقافي السائد.
4- تطور الدلالة وتغيرها داخل المجتمعات اللغوية وتأثرها بالزمن والمكان.
5- للأنا الأدبية واللغوية بُعدٌ اجتماعي ونفسي وجمالي مما يجعل تلقي الأدب وصداه وتأويلاته لا يتوقف عن التمرجح. ذلك أنَّ للكلمات والعبارات وطرق أدائها آثار نفسية، وهذه الآثار تنمي أو تتأثر بالبُعد الإبداعي الجمالي للأثر، وبالتاريخ، وبالزمن، والمكان، والثقافة، مما يجعل تلقي النصوص الأدبية وصداها متسماً بعدم الثبات ( ). والنص الحامل للمعرفة يقبل التحول إلى أدب، والنص الأدبي قادرٌ تماماً على حمل المعرفة، وإذا بقيت النصوص قادرةً على تحريك المشاعر وإن كانت معرفية فلأنها وضعت المعرفة ضمن شكل خاص( ).
وحتى لا نتأثر تأثيراً مفرطاً برأي النقاد يَلْزَمُنا " أن ننمي قاعدة التفكير المستقل الذي يتطلب ثقةً في مهاراتنا الخاصة بالملاحظة والتحليل، وقدراً من الإيمان بحكمنا النقدي ذاته. وهذا مهم غاية الأهمية في تنمية الثقة لكي نعرف ما نحب. وتنمية القدرة لكي نقول ماذا نحبه. وفوق كل شيء يجب علينا أن ننمي الثقة الكافية في ذوقنا الخاص، وفي نفاذ بصيرتنا الخاصة، وفي إدراكنا الخاص، وفي رهافة إحساسنا الخاص، حتى لا يروعنا النقاد بتاتاً رغم إمكان تأثرنا بآرائهم أو براهين مجادلاتهم... كما ينبغي علينا باستمرار أن نشك و نَزِن كل رأي يقرره النقاد..لأنَّ الحقيقة هي أنَّ النقد رغم كل الخدمات الجليلة التي يقدمها النقاد ( ما هي الخدمات : تبصيرنا، تدريبنا، تنمية الذوق، الكشف عن مستور النصوص...) ما يزال النقد فناً ذاتياً وثانوياً إذ لم يقدم أي عمل نقدي كُتِبَ يوماً من الأيام الكلمة الأخيرة عن عملٍ ما، فيلم أو مسرحية أو رواية أو قصيدة, أو صورة تشكيلية.
|
|
|
|
|